في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

33

ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم :

( إذ قالت امرأة عمران : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما وضعتها قالت : رب : إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم ؛ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ، وكفلها زكريا . كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

وقصة النذر تكشف لنا عن قلب " امرأة عمران " - أم مريم - وما يعمره من إيمان ، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك . وهو الجنين الذي تحمله في بطنها . خالصا لربها ، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه . والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح . فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله ، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولك شيء ولكل قيمة ، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده . . فهذا هو التحرر إذن . . وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية !

ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر . فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه ، أو في مجريات حياته ، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة . . لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله . وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله . وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان . .

وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران ، بأن يتقبل ربها منها نذرها - وهو فلذة كبدها - ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله ، والتوجه إليه كلية ، والتحرر من كل قيد ، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه :

( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني . إنك أنت السميع العليم ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

تقدم القول في موقع إذ في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إنيّ جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] . وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل ، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة : إذ هنا زائدة ، ويجوز أن تتعلق باذكر محذوفاً ، ولا يجوز تعلقها باصطفى : لأنّ هذا خاص بفضل آل عمران ، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم .

وامرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا . قيل : مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حَبَلَها ذلك محرّراً أي مخلَّصاً لخدمة بيت المقدس ، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكراً . وإطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنّه حُرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى . قيل : إنّها كانت تظنّه ذكراً فصدر منها النذر مطلقاً عن وصف الذكورة وإنّما كانوا يقولون : إذا جاء ذكراً فهو محرّر .