ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب ؛ الذي لا يند فيه عمل ولا نية ؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله :
( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) . .
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري ، وتحاصره برصيده من الخير والسوء . وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد ، ويود - ولكن لات حين مودة ! - لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمدا بعيدا . أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمدا بعيدا . بينما هو في مواجهته ، آخذ بخناقه ، ولات حين خلاص ، ولات حين فرار !
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري ، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه - سبحانه - :
ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان :
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير . وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد . .
وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات ، بما كان واقعا في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود . تحت دوافع القرابة أو التجارة . . على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها ، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة . . الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقا . .
كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق ، والتحرر من تلك القيود ، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه .
والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه ، ولو كان على غير دينه . . ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى . الولاء ارتباط وتناصر وتواد . وهذا لا يكون - في قلب يؤمن بالله حقا - إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله ؛ ويخضعون معه لمنهجه في الحياة ؛ ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام .
جملة مستأنفة ، أصل نظم الكلام فيها : تَوَدّ كل نفس لَوْ أنّ بينهَا وَبيْن ما عملت من سوء أمداً بعيداً يومَ تَجِدُ مَا عملت من خير مُحْضراً . فقُدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان ، إذا كانت هي المقصود من الكلام ، قضاء لحق الإيجاز بنسج بديع . ذلك أنّه إذا كان اسم الزمان هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام ، وكان مع ذلك ظرفاً لشيء من علائقه ، جيء به منصوباً على الظرفية ، وجُعل معنى بعضِ ما يحصل منه مصوغاً في صيغة فعللٍ عامل في ذلك الظرف . أو أصل الكلام : يحضر لكلِّ نفس في يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء ، فتودّ في ذلك اليوم لو أنّ بينها وبين ما عملت من سوء أمداً بعيداً ، أي زماناً متأخّراً ، وأنّه لم يحضر ذلك اليومَ . فالضمير في قوله وبينه على هذا يعود إلى ما عملتْ من سوء ، فحُوِّل التركيب ، وجُعل ( تودّ ) هو الناصب ليوم ، ليستغنى بكونه ظرفاً عن كونه فاعلاً . أو يكون أصل الكلام : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شرّ محضراً ، تودّ لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم أمداً بعيداً ؛ ليكون ضمير بينه عائداً إلى يوم أي تودّ أنّه تأخّر ولم يحضر كقوله : { رب لولا أخرتنِي إلى أجل قريب فأصدّق } [ المنافقون : 10 ] وهذا التحويل من قبيل قول امرىء القيس :
ويوماً على ظهر الكثيب تعذّرت *** عليّ وآلت حِلفة لــم تُحَلَّل
فإنّ مقصده ما حصل في اليوم ، ولكنّه جعل الاهتمام بنفس اليوم ، لأنّه ظرفه . ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة ، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأنّ الظرف والمجرور يشبهان الروابط ، فالجملة المفصولة إذا صدّرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها : كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : { وإذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] ونحوهما ، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في « الكشاف » .
وقيل منصوب باذكر ، وقيل متعلق بقوله : { المصير } وفيه بعد لطول الفصل ، وقيل بقوله : ( ويحذّركم ) وهو بعيد ، لأنّ التحذير حاصل من وقت نزول الآية ، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام .
فعلى الوجه الأول قوله تودّ هو مبدأ الاستئناف ، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله وما عمِلت من سُوء .
وقوله : { ويحذركم الله نفسه } يجوز أن يكون تكريراً للتحذير الأول لِزيادة التأكيد كقول لبيد :
فتنازَعَا سَبِطاً يَطير ظِلالـه *** كدُخان مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها
مَشْمُولَةٍ غُلِثت بنابت عَرنَج *** كدُخَانِ نَارٍ سَاطِــعٍ أسْنَامُها
ويجوز أن يكون الأول تحذيراً من موالاة الكافرين ، والثاني تحذيراً من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضراً .
والخطاب للمؤمنين ولذلك سمّى الموعظة تحذيراً : لأنّ المحذّر لا يكون متلبّساً بالوقوع في الخطر ، فإنّ التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالاً بعدَ الوقوع وذيّله هنا بقوله : { والله رؤوف بالعباد } للتذكير بأنّ هذا التحذير لمصلحة المحذّرين .
والتعريف في العباد للاستغراق : لأنّ رأفة الله شاملة لكلّ الناس مسلمهم وكافرهم : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة } [ فاطر : 45 ] { الله لطيف بعباده } [ الشورى : 19 ] وما وعيدهم إلاّ لجلب صلاحهم ، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلاّ لصدق كلماته ، وانتظامِ حكمته سبحانه . ولك أن تجعل ( أل ) عوضاً عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.