في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

27

وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ؛ والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال ؟

وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ؛ وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة ؛ وتفظيع جريمة إزهاق الروح . . ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة . . ذلك كله ضروري كأمن الأفراد . . بل أشد ضرورة ؛ لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ؛ فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ؛ كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء . . وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية . ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء . . فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ؛ ما لم يثب إلى الرشد والصواب . .

فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة :

( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، أن يقتلوا أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . . . ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . .

وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام ؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام . ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقاعليها . سواء خارج المصر أو داخلة . وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه .

وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ؛ المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة [ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ] لا يحاربون الحاكم وحده ، ولا يحاربون الناس وحدهم . إنما هم يحاربون الله ورسوله . حينما يحاربون شريعته ، ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ، ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة . كما أنهم بحربهم لله ورسوله ، وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها ، يسعون في الأرض فسادا . . فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله ، وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة . .

إنهم يحاربون الله ورسوله . . وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم . فهم قطعا لا يحاربون الله - سبحانه - بالسيف ، وقد لا يحاربون شخص رسول الله - بعد اختياره الرفيق الأعلى - ولكن الحرب لله ورسوله متحققة ، بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله .

كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة ، هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله ، في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله . . وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة ، في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف . .

نقرر هذا بوضوح ، لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان ، كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة ، ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم ، ولو زعموا أنهم مسلمون . . كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ؛ بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله . .

إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام ، أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله . . وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله ؟ إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ؛ فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه ؟ !

. . إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة ، التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ؛ وتروع عباد الله في دار الإسلام ، وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم . . أن يقتلوا تقتيلا عاديا . أو أن يصلبوا حتى يموتوا [ وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب ] أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى . . من خلاف . .

ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص : إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات ، أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين .

ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت . فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع ، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي :

وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه ، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف . وأما إذا أخاف السبيل فقط ، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه . . ومعنى التخيير عندمالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام . فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه ، لأن القطع لا يدفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف . وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير .

ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه ، وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل . لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة ، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ؛ ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار . وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام .

كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض . . هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته ؟ أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه . أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ؟

ونحن نختار النفي من أرض الجريمة ، إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ؛ جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم . حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته ، أو بعزله عن عصابته !

( ذلك لهم خزي في الدنيا . . ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .

فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى . وهذا كذلك تغليظ للعقوبة ، وتبشيع للجريمة . . ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة . وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة . فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره . . وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين ، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل . ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل . نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين ، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير ، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ . ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه : " قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْلٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض ، فقال لهم : هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها " فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا ، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا . فبعث رسول الله في آثارهم ، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم ، فأمر بهم ، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت ، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا . وقيل : أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا . قال جماعة : وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة ، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة . نقل ذلك مَوْلى ابنِ الطلاع في كتاب « الأقضيَة المَأثورة » بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين ، وعلى هذا يكون نزولها نسخاً للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه ، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع . وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين ، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة . قال أبو قِلابة : فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله . وفي رواية للطبري : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض . رواه عن ابن عبّاس والضحّاك . والصّحيح الأوّل . وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية .

فالحصر ب { إنّما } في قوله { إنّما جزاء الّذين يحَاربُون } الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي ، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين ، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك ، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة . وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه . وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلاً .

وأيَّامّاً كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها ، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة . والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازماً .

ومعنى { يحاربون } أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عُدواناً لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي ، لأنّ حقيقة الحرب القتال . ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه ، وقد عُلم أنّ الله لا يحارِبه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بمحاربَة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه ، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نَعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين ، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقاباً على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام . ثُمّ إنّ الله شرع حكماً للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده ، وسوّى عقوبتها ، فتعيّن أن يصير تأويل { يحاربون الله ورسوله } المحاربة لجماعة المسلمين . وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة ، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة . ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين ، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين ، فلهذا المعنى عُدّي { يحاربون } إلى { الله ورسوله } ليظهر أنّهم لم يَقصدوا حربَ معيَّن من النّاس ولا حرب صَفّ .

وعُطف { ويسعون في الأرض فساداً } لبيان القصدِ من حربهم اللّهَ ورَسوله ، فصار الجزاء على مجموع الأمرين ، فمجمُوعُ الأمرين سَبَب مركّب للعقوبة ، وكلّ واحد من الأمرين جزءُ سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها .

وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة ؛ فقال مالك : هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارَب بالفتح ، سواء في البادية أو في المِصر ، وقال به الشّافعي وأبو ثور . وقيل : لا يكون المحارب في المصر محارِباً ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق . والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة ، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر . وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه « ونّاس » أخاف أهل تونس بحيله في السرقة ، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقاً بباب سويقة .

ومعنى { يسعون في الأرض فساداً } أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه ، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللَّمّ ، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] . ويقولون : سعَى فلان لأهله ، أي اكتسب لهم ، وقال تعالى : { لتجزي كُلّ نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] .

وصاحب « الكشاف » جعله هنا بمعنى المشي ، فجعل { فساداً } حالاً أو مفعولاً لأجله ، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل ، ويكون الفعل منزّلاً منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله . وجَوّز أن يكون سعَى بمعنى أفسد ، فَجَعل { فساداً } مفعولاً مطلقاً . ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد .

والفساد : إتلاف الأنفس والأموال ، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثّياب ونحو ذلك .

و { يُقتّلوا } مبالغة في يُقْتلوا ، كقول امرىء القيس :

في أعشار قَلْبٍ مُقَتَّل

قُصِد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديداً عليهم ، وكذلك الوجه في قوله { يُصَلَّبوا } .

والصّلب : وضع الجاني الّذي يُراد قتله مشدوداً على خشبة ثُمّ قتله عليها طَعناً بالرّمح في موضع القتل . وقيل : الصّلب بَعْد القتل . والأول قول مالك ، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي .

و { مِنْ } في قوله { مِن خلاف } ابتدائية في موضع الحال من { أيديهم وأرجلُهم } ، فهي قيد للقطع ، أي أنّ القطع يبتدىء في حال التخالف ، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المُخالف فتعيّن أنّه مخالِف لمقطوععٍ آخر وإلاّ لم تتصوّر المخالفة ، فإذا لم يكن عضو مقطوعٌ سابقٌ فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفاً ثُمّ تجري المخالفَةُ فيما بعدُ . وقد علم من قوله : { من خلاف } أنّه لا يقطع من المحارب إلاّ يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه ؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف . فهَذا التّركيب من بديع الإيجاز . والظاهر أنّ كون القطع مِن خلاف تيسير ورحمة ، لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عُود بجهة الرّجل المقطوعة .

قال علماؤنا : تقطع يده لأجل أخذ المال ، ورجلُه للإخافة ؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة ، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم .

والنّفي من الأرض : الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود . والمراد الإبعاد ، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم . يقال : نفوا فلاناً ، أي أخرجوه من بينهم ، وهو الخليع ، وقال النّابغة :

ليُهنىء لكم أنْ قَدْ نَفَيْتُم بُيُوتنا

أي أقصيتمونا عن دياركم . ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا . وقال أبو حنيفة وبعض العلماء : النّفي هو السجن . وحمَلهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عنْ قوم كانَ فيهم بتسليط ضُرّه على قوم آخرين . وهو نظر يَحمل على التّأويل ، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفيَ يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذُلّ وخُضدت شوكته ، قال امرؤ القيس :

به الذئْب يعوي كالخليع المُعَيَّل

وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده . على أنّ من العلماء من قال : ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور .

قال أبو الزناد : كان النّفي قديماً إلى ( دَهْلَكَ ) وإلى ( بَاضِع ){[221]} وهما جزيرتان في بحر اليمن .

وقد دلّت الآية على أمرين : أحدهما : التخيير في جزاء المحاربين ؛ لأنّ أصل ( أو ) الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع ، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير ، نحو { ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك } [ البقرة : 196 ] . وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس ، وسعيدُ بن المسيّب ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة ، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذَ بأشدّ العقوبة كالقتل ؛ قُتل دون تَخيير ، وهو مُدرك واضح . ثُمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مُقامه في فساده . وذهب جماعة إلى أنّ ( أو ) في الآية للتّقسيم لا للتخيير ، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب : فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب ، ومن لم يَقتل ولا أخذَ مالاً عُزّر ، ومن أخاف الطريق نُفي ، ومن أخذ المال فقط قطع ، وهو قول ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن ، والسديّ ، والشافعي . ويقرب خلافهم من التّقارب .

والأمر الثّاني : أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس ، كما دلّ على ذلك قوله بعدُ { إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تَقدروا عليهم } الآية وهو بيّن . ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة .

وقوله { ذلك لهم خِزي في الدّنيا } ، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا . والخزي : الذلّ والإهانة { ولا تُخزنا يوم القيامة } [ آل عمران : 194 ] . وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين : عقاباً في الدّنيا وعقاباً في الآخرة . فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعُرنيّين ، كما قيل به ، فاستحقاقهم العذابين ظاهر ، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارِضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } [ الممتحنة : 12 ] الخ فقال : « فَمَن وفَى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهْوَ إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له » فقوله : فهو كفارة له ، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة ، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظاً على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب ، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل ، أي لهم خزي في الدنيا إن أُخِذوا به ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا .


[221]:دهلك – بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وفتح اللام- جزيرة بين اليمن والحبشة. وباضع – بموجدة في أوله وبكسر الضاد المعجمة- جزيرة في بحر اليمن