في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡيُنِنَاۖ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (48)

ويفرغ بهذا التهديد الأخير من أمر المكذبين الظالمين ، الذين طاردهم هذه المطاردة الطويلة العنيفة ، لينتهي بهم إلى موقف المهدد الذي ينتظره العذاب من بعيد ومن قريب . . يفرغ منه ليلتفت إلى النبي الكريم الذي تطاول عليه المتطاولون ، وتقول عليه المتقولون ، يلتفت إليه [ صلى الله عليه وسلم ] يوجهه إلى الصبر على هذا العناء ، وهذا التكذيب ، وهذا التطاول ؛ والصبر على طريق الدعوة الشاق الطويل . تاركا الأمر لحكم الله يفعل به ما يشاء : ( واصبر لحكم ربك ) . .

ومع التوجيه إلى الصبر إيذان بالإعزاز الرباني ، والعناية الإلهية ، والأنس الحبيب الذي يمسح على مشقات الطريق مسحا ، ويجعل الصبر عليه أمرا محببا ، وهو الوسيلة إلى هذا الإعزاز الكريم :

( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) . .

ويا له من تعبير ! ويا له من تصوير ! ويا له من تقدير !

إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان . هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله . حتى بين التعبيرات المشابهة .

لقد قيل لموسى عليه السلام : ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) . . وقيل له : ( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) . . وقيل له : ( واصطنعتك لنفسي ) . .

وكلها تعبيرات تدل على مقامات رفيعة . ولكنه قيل لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] : ( فإنك بأعيننا )وهو تعبير فيه إعزاز خاص ، وأنس خاص . وهو يلقي ظلا فريدا أرق وأشف من كل ظل . . ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص . فحسبنا أن نشير إلى ظلاله ، وأن نعيش في هذه الظلال .

ومع هذا الإيناس هداية إلى طريق الصلة الدائمة به : ( وسبح بحمد ربك حين تقوم . ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) . . فعلى مدار اليوم . عند اليقظة من النوم . وفي ثنايا الليل . وعند إدبار النجوم في الفجر . هنالك مجال الاستمتاع بهذا الإيناس الحبيب . والتسبيح زاد وأنس ومناجاة للقلوب . فكيف بقلب المحب الحبيب القريب ? ? ?

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡيُنِنَاۖ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (48)

{ واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } .

عطف على جملة { فذرهم حتى يلاقوا يومهم } [ الطور : 45 ] الخ ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم ابتداء من قوله تعالى : { إن عذاب ربك لواقع } [ الطور : 7 ] المسوق مساق التسلية له ، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى ختمَت السورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمدِ الله شكراً له على تفضيله بالرسالة .

والمراد ب { حكم ربك } ما حكم به وقدره من انتفاء إجابَة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم .

فاللام في قوله : { لحكم ربك } يجوز أن تكون بمعنى ( على ) فيكون لتعدية فعل { اصبر } كقوله تعالى : { واصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] . ويجوز فيها معنى ( إلى ) أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله : { واصبر حتى يحكم اللَّه } [ يونس : 109 ] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون { لحكم ربك } هو ما حكَم به من إرساله إلى الناس ، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك .

فللام في هذا المكان موقع جامع لا يفيد غيرُ اللام مثلَه .

والتفريع في قوله : { فإنك بأعيننا } تفريع العلة على المعلول { اصبر } لأنك بأعيننا ، أي بمحل العناية والكلاءة منا ، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم ، وقد وفى بهذا كله التمثيلُ في قوله : { فإنك بأعيننا } ، فإن الباء للإِلصاق المجَازي ، أي لا نغفل عنك ، يقال : هو بمرأى مني ومسمع ، أي لا يخفى عليّ شأنه . وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من النصر والجزاء والحفظ .

وقد آذن بذلك قوله : { لحكم ربك } دون أن يقول : واصبر لحكمنا ، أو لحكم الله ، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب .

وجمعُ الأعين : إما مبالغة في التمثيل كأنَّ الملاحظة بأعين عديدة كقوله : { واصنع الفلك بأعيننا } [ هود : 37 ] وهو من قبيل { والسماء بنيناها بأييد } [ الذاريات : 47 ] .

ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلَّقات الملاحظة فملاحظةٌ للذب عنه ، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة ، وملاحظة لجزاء أعدائه بما يستحقونه ، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به ، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح : { وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا } [ القمر : 13 ، 14 ] لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلّق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإِرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم ، وذلك خلاف قوله في قصة موسى { ولتصنع على عيني } [ طه : 39 ] فإنه تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها : { هل أدلكم على من يكفله } [ طه : 40 ] .

{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } .

التسبيح : التنزيه ، والمراد ما يدل عليه من قول ، وأشهر ذلك هو قول : « سبحان الله » وما يرادفه من الألفاظ ، ولذلك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار .

والباء في قوله : { بحمد ربك } للمصاحبة جمعاً بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال .

و { حين تقوم } وقت الهبوب من النوم ، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أُمر بالصبر والتسبيح والحمد .

فالتسبيح مراد به : الصلاة ، والقيام : جعل وقت للصلوات : إمّا للنوافل ، وإما لصلاة الفريضة وهي الصبح .

وقيل : التسبيح قوله : « سبحان الله » ، والقيام : الاستعداد للصلاة أو الهبوب من النوم . وروي ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم ، أي يقول القائم : « سبحان الله وبحمده » أو يقول : « سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك ولا إله غيرك » .

وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة : أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جلس مجلساً فكثر فيه لَغَظُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك " ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية .