ثم يقفهم على مفرق الطريق . . فإنه إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية . ولا وسط بين الطرفين ولا بديل . . حكم الله يقوم في الأرض ، وشريعة الله تنفذ في حياة الناس ، ومنهج الله يقود حياة البشر . . أو أنه حكم الجاهلية ، وشريعة الهوى ، ومنهج العبودية . . فأيهما يريدون ؟
( أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . .
إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص . فالجاهلية - كما يصفها الله ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر ، لأنها هي عبودية البشر للبشر ، والخروج من عبودية الله ، ورفض ألوهية الله ، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله . .
إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس ، ويوجد اليوم ، ويوجد غدا ، فيأخذ صفة الجاهلية ، المقابلة للإسلام ، والمناقضة للإسلام .
والناس - في أي زمان وفي أي مكان - إما أنهم يحكمون بشريعة الله - دون فتنة عن بعض منها - ويقبلونها ويسلمون بها تسليما ، فهم إذن في دين الله . وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر - في أي صورة من الصور - ويقبلونها فهم إذن في جاهلية ؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته ، وليسوا بحال في دين الله . والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية ؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية ، ويعيش في الجاهلية .
وهذا مفرق الطريق ، يقف الله الناس عليه . وهم بعد ذلك بالخيار !
ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية ؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله .
( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . .
وأجل ! فمن أحسن من الله حكما ؟
ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ، ويحكم فيهم ، خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟
أيستطيع أن يقول : إنه أعلم بالناس من خالق الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إن الله - سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة ، ويرسل رسوله الأخير ؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ، ويجعل شريعته شريعة الأبد . . كان - سبحانه - يجهل أن أحوالًا ستطرأ ، وأن حاجات ستستجد ، وأن ملابسات ستقع ؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه ، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ؟ !
ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة ، ويستبدل بها شريعة الجاهلية ، وحكم الجاهلية ؛ ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب ، أو هوى جيب من أجيال البشر ، فوق حكم الله ، وفوق شريعة الله ؟
ما الذي يستطيع أن يقوله . . وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين ؟ !
الظروف ؟ الملابسات ؟ عدم رغبة الناس ؟ الخوف من الأعداء ؟ . . ألم يكن هذا كله في علم الله ؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته ، وأن يسيروا على منهجه ، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله ؟
قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة ، والأوضاع المتجددة ، والاحوال المتغلبة ؟ ألم يكن ذلك في علم الله ؛ وهو يشدد هذا التشديد ، ويحذر هذا التحذير ؟
يستطيع غير المسلم أن يقول مايشاء . . ولكن المسلم . . أو من يدعون الإسلام . . ما الذي يقولونه من هذا كله ، ثم يبقون على شيء من الإسلام ؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام ؟
إنه مفرق الطريق ، الذي لا معدى عنده من الاختيار ؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال . .
إما إسلام وإما جاهلية . إما إيمان وإما كفر . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . .
والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون . والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين . .
إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم ؛ وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه ؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء !
وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية ، فلن يستقيم له ميزان ؛ ولن يتضح له منهج ، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل ؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح . . وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس ؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا " المسلمين " وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم . .
واختلف القراء في قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد ، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج «أفحكُم » برفع الميم ، قال ابن مجاهد : وهي خطأ ، قال أبو الفتح : ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه .
وقد جاء في الشعر ، قال أبو النجم :
قد أصبحت أم الخيار تدعي . . . عليَّ ذنباً كلُّه لم اصنع
قال القاضي أبو محمد : وهكذا الرواية ، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب ، ولو نصب «كل » لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه ، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح ، التقدير يبغونه ولم أصنع ، وإنما يحذف الضمير كثيراً من الصلة كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[4574]} ، وكما تقول مررت بالذي أكرمت ، ويحذف أقل من ذلك من الصفة ، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم ، ويتجه بيته بوجهين : أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى : { أفحكم } والثاني أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة ، وذلك حرف الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ «أفحكمُ » بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولاعوض من الضمير ، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة{[4575]} ، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون ؟ فلا تجعل [ يبغون ] خبراً ، بل تجعله صفة لخبر محذوف وموصوف ، ونظيره قوله تعالى : { من الذين هادوا يحرفون الكلم }{[4576]} ، تقديره : قوم يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، ومثله قول الشاعر :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقرأ سليمان بن مهران «أفحَكَمَ » بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس ، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها ، وله نظائر{[4577]} .
وقال القاضي أبو محمد : فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون ؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات ، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير { أفحكم الجاهلية } ، وقرأ ابن عامر «تبغون » بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم . وباقي السبعة «يبغون » بالياء من تحت ، و { يبغون } معناه يطلبون ويريدون ، وقوله تعالى : { ومن أحسن من الله حكماً } تقرير أي لا أحد أحسن منه حكماً تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله : { لقوم } من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون .
فَرّعت الفاء على مضمون قوله : { فإن تولّوا فاعلم } [ المائدة : 49 ] الخ استفهاماً عن مرادهم من ذلك التولّي ، والاستفهام إنكاري ، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة . وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب ، وهم أهلُ جاهلية ، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم ؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية ، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة .
وقرأ الجمهور { يَبغون } بياء الغائب ، والضمير عائد ل { مَن } من قوله : { ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 47 ] . وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات .
والواو في قوله : { ومن أحسن من الله حكماً } واو الحال ، وهو اعتراض ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، أي لا أحسن منه حكماً . وهو خطاب للمسلمين ، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا .
وقوله : { لقوم يوقنون } اللام فيه ليست متعلّقة ب { حكماً } إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم ، ولا هي لام التّقوية لأنّ { لقوم يوقنون } ليس مفعولاً ل { حُكماً } في المعنى . فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين ، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبراً أم إنشاء ، وهي الواقعة في نحو قولهم : سَقْيَاً لك ، وَجَدْعاً له ، وفي الحديث « تبّاً وسُحقاً لمن بَدّل بَعْدي » ، وقوله تعالى : { هيهات هيهات لِما توعدون } [ المؤمنون : 36 ] { حاش لله } [ يوسف : 51 ] . وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام . ومنه قول تعالى عن زليخا { وقالت هيتَ لك } [ يوسف : 23 ] لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ، إذا كان ( هيت ) اسمَ فِعْلِ مُضي بمعنى تهيّأتُ ، ومثل قوله تعالى هنا : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } . وقد يكون المقصود معلوماً فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو { حاشَ لله } [ يوسف : 51 ] ، وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين ، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم : سَقياً لك ورعياً ، ونحوهما ، وفي قوله : { هِيتَ } [ يوسف : 23 ] اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ . وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية ، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها ، وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفحكم الجاهلية يبغون}، الذي كانوا عليه من الجور من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، {ومن أحسن من الله حكما}، يقول: فلا أحد أحسن من الله حكما، {لقوم يوقنون} بالله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك فلم يرضوا بحكمك، وقد حكمت فيهم بالقسط حكم الجاهلية، يعني أحكام عبدة الأوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وإنه الحقّ الذي لا يجوز خلافه. ثم قال تعالى ذكره موبخا لهؤلاء الذين أبوا قبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلاً فعلهم ذلك منهم: ومن هذا الذي هو أحسن حكما أيها اليهود من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله ويقرّ بربوبيته، يقول تعالى ذكره: أيّ حكم أحسن من حكم الله إن كنتم موقنين أن لكم ربا وكنتم أهل توحيد وإقرار به.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
أيطلب اليهود في الزانيين حكما لم يأمر الله به وهم أهل كتاب كما فعل أهل الجاهلية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} فيه وجهان، أحدهما: أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى: وروي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «القتلى بواء» فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك، فنزلت: والثاني: أن يكون تعييراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى: وعن الحسن: هو عامّ في كل من يبغي غير حكم الله: والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم الله، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاووس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية... وقرأ قتادة: {أَفَحُكْمَ الجاهلية} على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به أفعى نجران، أو نظيره من حكام الجاهلية، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام. اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للبيان، أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}: الاستفهام للإنكار والتعجيب المتضمن للتوبيخ، أي أيتولون عن حكمك بالحق فيبغون حكم الجاهلية المبني على الهوى وترجيح القوي على الضعيف؟ روي أن هذا نزل في خصومه مما كان بين بني النضير وبني قريظة من جعل دية القرظي ضعفي دية النضري لمكان القوة والضعف.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله تعالى لقوم يوقنون بدينه، ويذعنون لشرعه، لأن هذا الحكم يجمع الحسنين: منتهى العدل والتزام الحق من الحاكم، ومنتهى القبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه. وهذا مما تفضل به الشريعة الإلهية القوانين البشرية. وقيل إن اللام هنا بمعنى عند أو للبيان، أي أن حكمه تعالى أحسن الأحكام عند الموقنين وفي نظرهم، وإن جهل ذلك غيرهم. ومضمون الآية أن مما ينبغي التعجيب منه من منكراتهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ويؤثرونه على حكم الله العادل، والحال أن حكمه تعالى أحسن الأحكام لأهل الإيمان والإسلام. لأن حكمه هو العدل الذي يستقيم به أمر الخلق، وأما حكم الجاهلية فهو تفضيل القوي على الضعيف، الذي يمكن الظالمين الأقوياء من استذلال أو استئصال الضعفاء، وهو شر الأحكام المخرب للعمران المفسد للنظام.
من العبرة في الآيات (48-49-50) أنه يوجد بين المسلمين الجغرافيين 82 في هذا العصر، من هم أشد فسادا في دينهم وأخلاقهم من أولئك الذين نزلت فيهم هذه الآيات، ومن ذلك أنهم يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره، ويرون أن استقلال البشر بوضع الشرائع خير من شرع الله تعالى، على أنهم لا يعرفون أصول شرع الله ولا قواعده، بل يظنون أنه محصور في هذه الكتب الفقهية – التي أكثر ما فيها من آراء أفراد من المجتهدين والمقلدين، فهم ينتقدون كثيرا منها بعدم موافقتها لمصالح الناس تارة ولأهوائهم تارة أخرى. يحتجون بضرب من الجهل على ضرب آخر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ْ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه. واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟).. إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص. فالجاهلية -كما يصفها الله ويحددها قرآنه- هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله.. إن الجاهلية -في ضوء هذا النص- ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والناس -في أي زمان وفي أي مكان- إما أنهم يحكمون بشريعة الله -دون فتنة عن بعض منها- ويقبلونها ويسلمون بها تسليما، فهم إذن في دين الله. وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر -في أي صورة من الصور- ويقبلونها فهم إذن في جاهلية؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين الله. والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية. وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله. (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟).. وأجل! فمن أحسن من الله حكما؟ ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم، خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إن الله -سبحانه- وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد.. كان -سبحانه- يجهل أن أحوالًا ستطرأ، وأن حاجات ستستجد، وأن ملابسات ستقع؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟! ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية، وحكم الجاهلية؛ ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيب من أجيال البشر، فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟ ما الذي يستطيع أن يقوله.. وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟.. ألم يكن هذا كله في علم الله؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟ قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة، والأوضاع المتجددة، والاحوال المتغلبة؟ ألم يكن ذلك في علم الله؛ وهو يشدد هذا التشديد، ويحذر هذا التحذير؟ يستطيع غير المسلم أن يقول مايشاء.. ولكن المسلم.. أو من يدعون الإسلام.. ما الذي يقولونه من هذا كله، ثم يبقون على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟ إنه مفرق الطريق، الذي لا معدى عنده من الاختيار؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال.. إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية.. والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين.. إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم؛ وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء! وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلن يستقيم له ميزان؛ ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح.. وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا "المسلمين "وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم..