ويرد عليهم الرجل بأن يتركوه لربه ، فهو لا يشكو لأحد من خلقه ، وهو على صلة بربه غير صلتهم ، ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون :
قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون .
وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول ؛ كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ، ولألائها الباهر .
إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف ، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلا على عودته إلى أبيه ، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل . . إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح بربه . فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور !
وهذه قيمة الإيمان بالله ، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة . معرفة التجلي والشهود وملابسة قدرته وقدره ، وملامسة رحمته ورعايته ، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين .
إن هذه الكلمات : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون )تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها . وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله ، فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب . .
والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه - مهما بلغت - إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق ! ولا نملك أن نزيد . ولكننا نحمد الله على فضله في هذا ، وندع ما بيننا وبينه له يعلمه سبحانه ويراه . .
فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّاً عليهم : أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى الله ، ولا تعنيف في ذلك . و «البث » ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره ، وأكثر ما يستعمل «البث » في المكروه ، وقال أبو عبيدة وغيره : «البث »{[6795]} أشد الحزن ، وقد يستعمل «البث » في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع : ولا يولج الكف ليعلم «البث » ، ومنه قولهم : أبثك حديثي{[6796]} .
وقرأ عيسى : «وحَزَني » بفتح الحاء والزاي .
وحكى الطبري بسند : أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له فرعون : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم ؟ فقالوا : إنه يعقوب ، فقال : ما بلغ بك هذا يا يعقوب ؟ قال له : طول الزمان وكثرة الأحزان ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب خطيئة فاغفرها لي ، وأسند الطبري إلى الحسن قال : كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، ولم يزل يبكي حتى كف بصره ، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب . وقوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده ، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر : إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت ، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.