في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلصَّـٰٓفَّـٰتِ صَفّٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الصافات مكية وآياتها ثنتان وثمانون ومائة

هذه السورة المكية - كسابقتها - قصيرة الفواصل ، سريعة الإيقاع ، كثيرة المشاهد والمواقف ، متنوعة الصور والظلال ، عميقة المؤثرات ، وبعضها عنيف الوقع ، عنيف التأثير .

وهي تستهدف - كسائر السور المكية - بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله . ولكنها - بصفة خاصة - تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى . وتقف أمام هذه الصورة طويلاً ؛ وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى . . تلك هي الصورة التي كانتجاهلية العرب تستسيغها ، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله - سبحانه - وبين الجن . وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزاوج بين الله - تعالى - والجنة ولدت الملائكة . ثم تزعم أن الملائكة إناث ، وأنهن بنات الله !

هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة ؛ تكشف عن تهافتها وسخفها . ونظراً لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة : ( والصافات صفاً . فالزاجرات زجراً . فالتاليات ذكراً ) . . ويتلوها حديث عن الشياطين المردة ، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كي لا يقربوا من الملأ الأعلى . ولا يتسمعوا لما يدور فيه ؛ ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة ! كذلك يشبه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرؤوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع ! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ? أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ? ألا إنهم من إفكهم ليقولون : ولد الله وإنهم لكاذبون . أصطفى البنات على البنين ? ما لكم كيف تحكمون ? أفلا تذكرون ? أم لكم سلطان مبين ? فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين . وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون . . سبحان الله عما يصفون ! . .

وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية . فتثبت فكرة التوحيد مستدلة بالكون المشهود : ( إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) . . وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة ( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون . إنا كذلك نفعل بالمجرمين . إنهم كانوا إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ؛ ويقولون : أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ? بل جاء بالحق وصدق المرسلين . إنكم لذائقوا العذاب الأليم . وما تجزون إلا ما كنتم تعملون . .

كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء . ( وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? قل نعم وأنتم داخرون ) . . ثم تعرض بهذه المناسبة مشهداً مطولاً فريداً من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجآت !

وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قول 1 ( أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ? والرد عليهم : ( بل جاء بالحق وصدق المرسلين ) . .

وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم تعرض سلسلة من قصص الرسل : نوح وإبراهيم وبنيه . وموسى وهارون . وإلياس . ولوط . ويونس . تتكشف فيها رحمة الله ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل : ( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين . ولقد أرسلنا فيهم منذرين . فانظر كيف كان عاقبة المنذرين . إلا عباد الله المخلصين ) . .

وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل . قصة الذبح والفداء وتبرز فيها الطاعة والاستسلام لله في أروع صورها وأعمقها وأرفعها ؛ وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء .

والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها ، تتمثل بشكل واضح في :

مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها : ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب . وحفظاً من كل شيطان مارد . لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب . إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) . .

وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة ، ومفاجآتها الفريدة ، وانفعالاتها القوية . والمشاهد التي تحويها هذه السورةذات طابع فريد حقاً سنلمسه عند استعراضه تفصيلاً في مكانه من السورة .

وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته . وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل - عليهما السلام ، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهز القلوب هزاً عميقاً عنيفاً .

ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة وهو ذو طابع مميز يتفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط رئيسية :

الشوط الأول يتضمن افتتاح السورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة : ( والصافات صفا . فالزاجرات زجراً . فالتاليات ذكراً )على وحدانية الله رب المشارق ، مزين السماء بالكواكب . ثم تجيء مسألة الشياطين وتسمعهم للملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة . يتلوها سؤال لهم : أهم أشد خلقاً أم تلك الخلائق : الملائكة والسماء والكواكب والشياطين والشهب ? للتوصل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزئون بوقوعه . ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطول للبعث والحساب والنعيم والعذاب . وهو مشهد فريد . .

والشوط الثاني يبدأ بأن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السابقين ، الذين جاءتهم النذر فكان أكثرهم من الضالين . ويستطرد في قصص أولئك المنذرين من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس ؛ وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين .

والشوط الثالث يتحدث عن تلك الأسطورة التي مر ذكرها . إسطورة الجن والملائكة . ويقرر كذلك وعد الله لرسله بالظفر والغلبة : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) . . وينتهي بختام السورة بتنزيه الله سبحانه والتسليم على رسله والاعتراف بربوبيته : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين ) . . وهي القضايا التي تتناولها السورة في الصميم . .

والآن نأخذ في التفصيل :

( والصافات صفاً ، فالزاجرات زجراً ، فالتاليات ذكراً ، إن إلهكم لواحد . رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) . .

والصافات والزاجرات والتاليات . . . طوائف من الملائكة ذكرها هنا بأعمالها التي يعلمها . والتي يجوز أن تكون هي الصافات قوائمها في الصلاة ، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلصَّـٰٓفَّـٰتِ صَفّٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الصافات مكية

هي مكية ، وعددها في المدني والشامي والكوفي مائة آية وآيتان وثمانون آية .

بسم الله الرحمان الرحيم

أقسم تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته واختلف الناس في معناها ، فقال ابن مسعود ومسروق وقتادة : هي الملائكة التي تصف في السماء في عبادة الله وذكره صفوفاً وقالت فرقة : أراد كل من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله ، أو في صلاة وطاعة ، والتقدير والجماعات الصافات .

قال القاضي أبو محمد : واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها .