الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلصَّـٰٓفَّـٰتِ صَفّٗا} (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله : { وَالصَّافَّاتِ صَفَّا } : قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ ، والزَّاجراتِ والتاليات ، في صاد " صَفَّاً " وزاي " زَجْراً " وذال " ذِكْراً " ، وكذلك فَعَلا في { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] وفي

{ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } [ المرسلات : 5 ] وفي { الْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين . وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه . وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه ، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ ، وحمزةَ لا يُجيزه . وهذا كما اتفقا في إدغام { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } في سورة النساء [ الآية : 81 ] ، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه . وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك .

ومفعولُ " الصَّافَّات " و " الزَّاجراتِ " غيرُ مرادٍ ؛ إذ المعنى : الفاعلات لذلك . وأعرب أبو البقاء " صَفَّاً " مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ . قلت : وهذا ضعيفٌ . وقيل : هو مرادٌ . والمعنى : والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون ، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ ، كقوله : { وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ } [ النور : 41 ] ، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ . والزَّجْرُ : الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ . وأنشد :

3789 زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا *** أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم

وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ : إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك . وأمَّا " والتاليات " فَيجوز أَنْ يكونَ " ذِكْراً " مفعولَه . والمرادُ بالذِّكْر : القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ . ويجوز أَنْ يكونَ " ذِكْراً " مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات . وهذا أوفقُ لِما قبلَه . قال الزمخشري : " الفاءُ في " فالزَّاجراتِ " " فالتالياتِ " : إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه :

3790أ يا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا *** بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ

كأنه قال : الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه ، كقوله : خُذِ الأفضلَ فالأكملَ ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك : " رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين " فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ . فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ ، وإمَّا على العكس . وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل ، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ ، والزاجراتُ أفضلَ ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً ، أو على العكس " يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل .

والواوُ في هذه للقسمِ ، والجوابُ/ قولُه : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } . وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ : هل هي للقسمِ أو للعطف ؟