والجولة الثانية في السماوات والأرض ، لتقصِّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون الله ، والسماوات والأرض لا تحس لهم أثراً ، ولا تعرف عنهم خبراً :
( قل : أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ? بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً ) .
والحجة واضحة والدليل بين . فهذه الأرض بكل ما فيها ومن فيها . هذه هي مشهودة منظورة . أي جزء فيها أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحداً - غير الله - خلقه وأنشأه ! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه الدعوى لو جرؤ عليها مدع . وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو الله ؛ وهو يحمل آثار الصنعة التي لا يدعيها مدع ، لأنه لا تشبهها صنعة ، مما يعمل العاجزون أبناء الفناء !
( أم لهم شرك في السماوات ? ) . .
ولا هذه من باب أولى ! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه الآلهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات ، ولا مشاركة في ملكية السماوات . كائنة ما كانت . حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملائكة . . فقصارى ما كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلاغهم خبر السماء . أو يستشفعوا بالملائكة عند الله . ولم يرتق ادعاؤهم يوماً إلى الزعم بأن لهم شركاً في السماء !
( أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ? ) . .
وحتى هذه الدرجة - درجة أن يكون الله قد آتى هؤلاء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه ، واثقون بما فيه - لم يبلغها أولئك الشركاء المزعومون . . والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال الإنكاري موجهاً إلى المشركين أنفسهم - لا إلى الشركاء - فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه من الله فهم على بينة منه وبرهان . وليس هذا صحيحاً ولا يمكن أن يدعوه . وعلى هذا المعنى يكون هناك إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من الله بيّن . وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق . وليس لهم من هذا شيء يدعونه ؛ بينما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قد جاءهم بكتاب من عند الله بيّن . فما لهم يعرضون عنه ، وهو السبيل الوحيد لاستمداد العقيدة ? !
( بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً ) . .
والظالمون يعد بعضهم بعضاً أن طريقتهم هي المثلى ؛ وأنهم هم المنتصرون في النهاية . وإن هم إلا مخدوعون مغرورون ، يغر بعضهم بعضاً ، ويعيشون في هذا الغرور الذي لا يجدي شيئاً . .
قوله تعالى : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله } أي : جعلتموهم شركائي بزعمكم يعني : الأصنام ، { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتاباً } قال مقاتل : هل أعطينا كفار مكة كتاباً ، { فهم على بينة منه } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وحفص : بينة على التوحيد ، وقرأ الآخرون : بينات على الجمع ، يعني دلائل واضحة منه في ذلك الكتاب من ضروب البيان . { بل إن يعد } أي : ما يعد ، { الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً } والغرور ما يغر الإنسان مما لا أصل له ، قال مقاتل : يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة غرور وباطل .
ولما بيّن أنه سبحانه هو الذي استخلفهم ، أكد بيان ذلك عندهم بأمره صلى الله عليه وسلم بما يضطرهم إلى الإعتراف به فقال : { قل أرءيتم } أي أخبروني { شركاءكم } أضافهم إليهم لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه ، وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالشوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه ، ثم بين المراد من عدهم لهم شركاء بقوله : { الذين تدعون } أي تدعونهم شركاء { من دون الله } أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان التقدير : بأي شيء جعلتموهم شركاء في العبادة ، ألهم شرك في الأرض ، بنى عليه قوله مكرراً لإشهادهم عجز شركائهم ونقص من عبدوه من دونه : { أروني ماذا } أي الذي أو أيّ شيء { خلقوا من الأرض } أي لتصح لكم دعوى الشركة فيهم ، وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا ، ولعل استفهامهم عن رؤية شركائهم تنبيه على أنهم من الامتهان والحقارة بحيث يراهم كل من يقصد رؤيتهم ويعلم أنه لا خلق لهم ، والله تعالى ، بخلاف ذلك في كل من الأمرين ، مترد برداء الكبر محتجب بحجاب الجلال والعز ، وكل أحد يعلم أنه خالق لكل مخلوق ، فكيف يكون من لا يخلق كمن يخلق .
ولما نبههم بهذا الأمر الذي ساقه المعلم بأنه لا ينبغي لعاقل أن يدعي شركة لشيء حتى يعلم الشركة وإن جهل عين المشارك فيه ، قال مؤكداً لذلك موسعاً لهم في المحال ، زيادة في تبكيتهم على ما هم فيه من الضلال : { أم لهم شرك } أي وإن كان قليلاً { في السماوات } أي أروني ما خلقوا في السماوات ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه ، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً لدلالة مثله أولاً عليه .
ولما أتم التبكيت بالاستفهام عن المرئي ، أتبعه التوبيخ بالاستفهام عن المسموع ، مؤذناً بالالتفات إلى التكلم بمظهر العظمة بشديد الغضب فقال : { أم آتيناهم } أي الشركاء أو المشركين بهم بما لنا من العظمة { كتاباً } أي دالاً على انه من عندنا بإعجازه أو غير ذلك من البراهين القاطعة ثبتت لهم شركة { فهم } أي المشركون { على بينة } أي حجة ظاهرة ، وبينات - على القراءة الأخرى ، أي دلائل واضحات بما في ذلك الكتاب من ضروب البيان { منه } أي ذلك الكتاب على أنا أشركناهم في الأمر حتى يشهدوا لهم هذه الشهادة التي لا يسوغون مثلها في إثبات الشركة لعبد من عبيدهم في أحقر الأشياء فكيف يسوغونها في انتقاص الملك الذي لا خير عندهم إلا منه غير هائبين له ولا مستحين منه .
ولما كان التقدير : لم يكن شيء من ذلك فليسوا على بيان ، بل على غرور ، قال منبهاً لهم على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم مخبراً أنهم لا يقدرون على الإتيان بشيء مما به يطالبون وأنه ليس لهم جواب عما عنه يسألون ، وأكده لأجل ظنهم أن أمورهم في غاية الإحكام ، { بل أن } أي ما { يعد الظالمون } أي الواضعون للأشياء في غير مواضعها { بعضهم بعضاً } أي الأتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تشفع وتضر ولا تنفع { إلا غروراً * } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.