وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف ، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء : وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته . إما لأجل غير محدود ، وإما لأجل طويل معين :
( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم . وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) . .
إن هناك حالات نفسية واقعة ، تلم بنفوس بعض الأزواج ، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة ، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة ، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة ؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا ؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى ؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية ؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة ، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول .
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية ، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته . كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم ، أو ثورة غضب ، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى . .
ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك ، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها ؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة ، لا تستمتع بحياة زوجية معه ، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى .
فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة ، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة . جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء . لا يتجاوز أربعة أشهر . وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال ، كي لا تفسد نفس المرأة ، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر . وقد روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج من الليل يعس . أي يتحسس حاجات الناس وأحوالهم متخفيا . فسمع امرأة تقول :
( تطاول هذا الليل وأسود جانبه % وأرقني إلا خليل ألاعبه )
( فوالله ، لولا الله إني أراقبه % لحرك من هذا السرير جوانبه )
فسأل عمر ابنته حفصة - رضي الله عنها - كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر - أو أربعة أشهر - فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجياش أكثر من ذلك . . وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة . .
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور . ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره . فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة ، ويرجع إلى زوجه وعشه ، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته .
{ للذين يؤلون من نسائهم } أي يحلفون على أن لا يجامعوهن . والإيلاء : الحلف ، وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن . { تربص أربعة أشهر } مبتدأ وما قبله خبره ، أو فاعل الظرف على خلاف سبق ، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع ، أي للمولى حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ، ولا طلاق ، ولذلك قال الشافعي : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده { فإن فاؤوا } رجعوا في اليمين بالحنث ، { فإن الله غفور رحيم } للمولى إثم حنثه إذا كفر ، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه ، بالفيئة التي هي كالتوبة .
استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية ، والإسلام . كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح ، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم ، فإنها تجمع الثلاثة ؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين ، وقد أمر الله به في قوله : { وعاشروهن بالمعروف } [ النساء : 19 ] فامتثاله من التقوى ، ولأن دوامه من دوام الإصلاح ، ويحدث بفقده الشقاق ، وهو مناف للتقوى . وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين ، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة ، ولا كلام للمرأة في ذلك .
وعن سعيد بن المسيب : « كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يطلقها ، لئلا يتزوجها غيره ، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة » أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم . قال : « ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك ، فأزال الله ذلك ، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى » فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان ، التي مهد لها بقوله : { ولا تجعلوا الله عرضة } [ البقرة : 224 ] .
والإيلاء : الحلف ، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء ، وتألى يتألى تألياً ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والاسم الألوَّة والألية ، كلاهما بالتشديد ، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة .
وقال الراغب : « الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى : { لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } [ النور : 22 ] وصار في الشرع الحلف المخصوص » فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك ؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك ؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو ، وتشهد به موارد الاستعمال ، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً ، ويذكرونه كثيراً ، قال المتلمس :
* آلَيْتُ حبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه *
وقال تعالى : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } [ النور : 22 ] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا : { للذين يؤلون من نسائهم } فَعدَّاه بمِنْ ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين . وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية ، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص .
ومجيء اللام في { للذين يؤلون } لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم ، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه ، أي ليس التربص بواجب ، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة . وعدى فعل الإيلاء بمِن ، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى ؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد ، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد ، كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم ، فمِنْ للابتداء المجازي .
والنساء : الزوجات كما تقدم في قوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض }
[ البقرة : 222 ] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان ، مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وقد تقدم في قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] .
والتربص : انتظار حصول شيء لغير المنتظِر ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى « في » كقوله تعالى : { بل مكر الليل } [ سبأ : 33 ] .
وتقديم { للذين يؤلون } على المبتدأ المسند إليه ، وهو تربص ، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج ، وتشويق لذِكْر المسند إليه . و { فاءوا } رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء ، وحذف متعلق { فاءوا } بالظهور المقصود . والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود .
وقوله : { فإن الله غفور رحيم } دليل الجواب ، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم ؛ لأن الله غفور رحيم . وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام ، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن ، قصدُ الإضرار بالمرأة . وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب ، أو لقصد آخر معتبر شرعاً ، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً . وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً ، قيل : لمرض كان برجله ، وقيل : لأجل تأديبهن ؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال ، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات ، أو على استحسان ذلك . والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور .
وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل ، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة ، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة ، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ ، إن لم يقيدوها بالحلف .
وعَزم الطلاق : التصميم عليه ، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه ، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.