في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ} (11)

ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء ، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة :

والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان ؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز ، لطول الألفة والتكرار . فأما محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار ؛ لأنها قادمة إليه من عند الله . ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات ، ويرى يده الصناع ! وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود . فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة . ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة ، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض ، المتكاثف في أجواز الفضاء . فمن أنشأ هذه الأرض ? ومن جعل فيها الماء ? ومن سلط عليها الحرارة ? ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة ? ومن أودع البخار خاصية الارتفاع ؛ وخاصية التكثف في أجواز الفضاء ? ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحونا بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء ? وما الكهرباء ? وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء ? إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب ، بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب !

( والذي نزل من السماء ماء بقدر ) . .

فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق ؛ ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة ؛ ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة ، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله .

( فأنشرنا به بلدة ميتاً ) . .

والإنشاء الإحياء . والحياة تتبع الماء . ومن الماء كل شيء حي .

( كذلك تخرجون ) . .

فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها ؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة ، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة . فالإعادة من البدء ؛ وليس فيها عزيز على الله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ} (11)

{ والذي نزل من السماء ماء بقدر } بمقدار ينفع ولا يضر . { فأنشرنا به بلدة ميتا } مال عنه الماء . وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان . { كذلك } مثل ذلك الإنشار . { تخرجون } تنشرون من قبوركم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { تخرجون } بفتح التاء وضم الراء .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ} (11)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والذي نزل من السماء ماء بقدر} وهو المطر، {فأنشرنا به بلدة ميتا}: فأحيينا به يعني بالماء، بلدة ميتا لا نبت فيها، فلما أصابها الماء أنبتت.

{كذلك}: هكذا {تخرجون} من الأرض بالماء كما يخرج النبت...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ" يعني: ما نزّل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء "بقدر": يقول: بمقدار حاجتكم إليه، فلم يجعله كالطوفان، فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح، ولا جعله قليلاً، لا ينبت به النبات والزرع من قلّته، ولكنه جعله غيثا مغيثا، وَحَيا للأرض الميتة محييا. "فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتا "يقول جلّ ثناؤه: فأحيينا به بلدة من بلادكم ميتا، يعني مجدبة لا نبات بها ولا زرع، قد درست من الجدوب، وتعفنت من القحوط. "كَذلكَ تُخْرَجُونَ" يقول تعالى ذكره: كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزّلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع، كذلك أيها الناس تُخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

في ما ذكر من إنزال الماء من السماء ونشره في الأرض وإنبات النبات فيها بذلك الماء دلالة من الوجوه التي ذكرنا في قوله: {الذي جعل لكم الأرض مهدا} فإنه أنزل الماء من السماء ليكون في الأرض أنواع النّعم التي ذكر، ويجعل منافع السماء متّصلة بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما؛ ليعلموا عِظم نعمه عليهم، وليعلموا أن مالكها واحد.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {من السماء} هو المطر بإجماع، واختلف المتأولون في معنى قوله: {بقدر} فقالت فرقة معناه: بقضاء وحتم في الأزل. وقال آخرون المعنى: بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد ولا قلة فيقصر، بل غيثاً مغيثاً سبيلاً نافعاً. وقالت فرقة معناه: بتقدير وتحرير، أي قدراً معلوماً..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان إنزال الماء من العلو في غاية العجب لا سيما إذا كان في وقت دون وقت، وكان إنبات النبات به أعجب، وكان دالاً على البعث ولا بد، وكان مقصود السورة أنه لا بد من ردهم عن عنادهم بأعظم الكفران إلى الإيمان، والخضوع له بغاية الإذعان، قال دالاً على كمال القدرة على ذلك وغيره بالتنبيه على كمال الوصف بالعطف وبإعادة الموصول الدال على الفاعل المذكر بعظمته للتنبيه على أن الإعادة التي هذا دليلها هي سر الوجود، فهي أشرف مما أريد من الآية الماضية بمهد الأرض وسلك السبل: {والذي نزل} أي بحسب التدريج، ولولا قدرته الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها {من السماء} أي المحل العالي {ماء} عذباً لزروعكم وثماركم وشربكم بأنفسكم وأنعامكم {بقدر} وهو بحيث ينفع الناس ولا يضر بأن يكون على مقدار حاجاتهم، ودل على عظمة الإنبات بلفت القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أنه الدليل الظاهر على ما وصل به من نشر الأموات فقال مسبباً عن ذلك: {فأنشرنا} أي أحيينا، والمادة تدور على الحركة والامتداد والانبساط {به} أي الماء {بلدة} أي مكاناً يجتمع الناس فيه للإقامة معتنون بإحيائه متعاونون على دوام إبقائه {ميتاً} أي كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيى به، ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه وقحط الزمان واضمحلال ما كان به من النبات.

ولما كان لا فرق بين جمع الماء للنبات من أعماق الأرض بعد أن كان تراباً من جملة ترابها وإخراجه كما كان رابياً يهتز بالحياة على هيئته وألوانه وما كان من تفاريعه أغصانه بأمر الله وبين جميع الله تعالى لما تفتت من أجساد الآدميين وإخراجه كما كان بروحه وجميع جواهره وأعراضه إلا أن الله قادر بكل اعتبار وفي كل وقت بلا شرط أصلاً، والماء لا قدرة له إلا بتقدير الله تعالى، كان فخراً عظيماً لأن تنتهز الفرصة لتقدير ما هم له منكرون وبه يكفرون من أمر البعث، فقال تعالى إيقاظاً لهم من رقدتهم بعثاً من موت سكرتهم: {كذلك} أي مثل هذا الإخراج العظيم لما تشاهدونه من النبات {تخرجون} من الموت الحسي والمعنوي بأيسر أمر من أمره تعالى وأسهل شأن فتخرجون في زمرة الأموات من الأرض ثانياً {فإذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم: 20] وتخرجون من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان فإذا أنتم حكماء عالمون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة: والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز، لطول الألفة والتكرار. فأما محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار؛ لأنها قادمة إليه من عند الله. ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات...

(فأنشرنا به بلدة ميتاً).. والإنشاء الإحياء. والحياة تتبع الماء. ومن الماء كل شيء حي...

(كذلك تخرجون).. فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة. فالإعادة من البدء؛ وليس فيها عزيز على الله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقل من الاستدلال والامتنان بخلق الأرض إلى الاستدلال والامتنان بخلق وسائل العيش فيها، وهو ماء المطر الذي به تُنبت الأرض ما يصلح لاقتيات الناس... وأصل النشر بسْط ما كان مطوياً، وتفرعت من ذلك معاني الإعادة والانتشار.

والنشر هنا مجاز؛ لأن الإحياء للأرض مجاز، وزاده حسناً هنا أن يكون مقدمة لقوله {كذلك تخرجون}.

وضمير {فأنشرنا} التفات من الغيبة إلى التكلم. والميّت ضدّ الحي. ووصف البلدة به مجاز شائع قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميّتة أحييناها} [يس: 33]...