لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه . أحد . صمد . فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته . كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء . أو يرمزون بها إلى الملائكة . . وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأن بينه - سبحانه - وبين الجنة نسبا ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . .
ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) . . ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) . . وفي إيمانهم كانوا يقولون : والله . وتالله . وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم . . الخ .
ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم . حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم . وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله . وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم ، ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم . وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) .
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله . والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله . بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله - بزعمهم - فكانوا يعدون أنفسهم أهدى . لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى . . وكله شرك . وليس في الشرك خيار . ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا !
فلما جاءهم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : إن دينه هو دين إبراهيم - عليه السلام - قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد ? ! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] خطة وسطا بينهم وبينه ؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه ! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط !
ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه . . لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية !
ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق . . نزلت هذه السورة . بهذا الجزم . وبهذا التوكيد . وبهذا التكرار . لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير :
( قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين ) .
نفي بعد نفي . وجزم بعد جزم . وتوكيد بعد توكيد . بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد . .
( قل ) . . فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده . ليس لمحمد فيه شيء . إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره ، الحاكم الذي لا راد لحكمه .
قل يا أيها الكافرون . . ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم . . إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون . فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق . .
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب ، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال
لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم ، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك ، فقال معلماً له ما يقول ويفعل : { قل } ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير ، قال منادياً له بأداة البعد ، وإن كان حاضراً ، معبراً بالوصف المؤذن بالرسوخ : { يا أيها الكافرون } أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر ، فلا انفكاك لهم عنه ، فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ ، وهم كفرة مخصوصون ، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل ، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة ، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً ، كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ، ومحل عزهم وحميتهم ، إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم ، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فهذا طريق أحد الفريقين ، وفي قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق ؛ إذ ليس إلا طريق السلامة ، أو طريق الهلاك :{ فريق في الجنة وفريق في السعير }[ الشورى : 7 ]
{ فمنكم كافر ومنكم مؤمن }[ التغابن : 2 ] والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم ، وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم ، ورتبتهم مختلفة ، وإن جمعهم جامع ، وهو قوله : { فريق في الجنة } وأما أهل التنكب عن هذا الطريق -وهم الهالكون- فعلى طبقات أيضاً ، ويضم جميعهم طريق واحد ، فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما ، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت ، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق ، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به ، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن{ هدى للمتقين }[ البقرة : 2 ] إلى قوله : { إن شانئك هو الأبتر } أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون } فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك ، ولا يقع منه الإيمان أبداً{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله }[ الأنعام : 111 ] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم :{ ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل }[ السجدة : 12 ] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }[ الأنعام : 128 ] تصديقاً لكلمة الله ، وإحكاماً لسابق قدره :{ أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار }[ الزمر :19 ] فقال لهم : { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } إلى آخرها ، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال ، واستمر كل على طريقه{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }[ فاطر : 8 ]
{ إن عليك إلا البلاغ }[ الشورى : 48 ] فتأمل موقع هذه السورة ، وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب ، يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.