السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك ، وتسمى أيضاً سورة المعابدة والإخلاص ؛ لأنها في إخلاص العبادة والدين كما أن{ قل هو الله أحد } في إخلاص التوحيد ، واجتماع النفاق فيهما محال لمن اعتقدهما وعمل بهما . ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشقشتان ، أي : المبرئتان من النفاق . قال الشاعر :

أعيذك بالمقشقشتين مما *** أحاذره ومن نظر العيون

وهي ست آيات ، وست وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفاً .

{ بسم الله } الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره { الرحمن } الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره { الرحيم } الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره .

وقوله تعالى : { قل } أي : يا أشرف الخلق { يا أيها الكافرون } إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وأمية بن خلف . قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كله ، تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا حظاً منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فقال : معاذ الله أن نشرك به غيره ، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك ، قال : حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك ، وأذوه وأصحابه ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم ، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم : { يا أيها الذين كفروا } [ التحريم : 7 ] وهاهنا قال : { قل يا أيها الكافرون ؟ } .

أجيب : بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة ، وثم لا يكون رسولاً إليهم ، فأزال الواسطة ، فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين ، فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي ، وأمّا هنا فكانوا موصوفين بالكفر ، وكان الرسول رسولاً إليهم ، فقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون } ، أي : الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه ، فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون ، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل ، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة ، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم .

وقال الله تعالى له : { قل يا أيها الكافرون } لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [ آل عمران : 159 ] وقال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وقال تعالى : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ آل عمران : 159 ] ثم كان مأموراً بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن ، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون : كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق ، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام ، لا أني ذكرته من عند نفسي .