اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، في قول ابن مسعود ، والحسن ، وعكرمة ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك{[1]} . وهي ست آيات ، وست وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفا .

قال ابن الخطيب{[2]} : «هذه السورة تسمى سورة البراءة{[3]} وسورة الإخلاص ، والمشفعة » .

روى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - : «إنَّها تعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ »{[4]} .

وروى ابن الأنباري عن أنس - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قل يا أيها الكافرون تَعدلُ رُبُعَ القُرآنِ »{[5]} .

وخرج الحافظ عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - «صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه في صلاة الفجر في سفرٍ ، فقرأ : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ثم قال صلى الله عليه وسلم : «قَرَأْتُ عَلَيْكُم ثُلثَ القُرآنِ وربعهُ »{[6]} .

[ وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أتُحِبُّ يا جُبير إذا خَرجْتَ سَفَرَاً أنْ تكُونَ مِنْ أمثلِ أصْحَابِكَ هَيْئةً ، وأكْثرهمْ زَاداً ؟ » قلت : نَعَمْ ، «فاقْرَأ هذه السُّور الخَمْسَ من أول : { قل يا أيها الكافرون } إلى { قل أعوذ برب الناس } ، وافتتِحْ قِرءاتَك ب «بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ » .

قال : ] {[7]} فوالله ، لقد كنت غير كثير المال ، إذا سافرت أكون أبذَّهُم هيئة ، وأقلهم مالاً ، فمذ قرأتهنّ صرت من أحسنهم هيئة ، وأكثرهم زاداً ، حتى أرجع من سفري ذلك{[8]} .

قال ابن الخطيب{[9]} : والوجه في أنها تعدل ربع القرآن ، هو أن القرآن يشتمل على الأمر بالمأمورات ، والنهي عن المحظورات ، وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح ، وهذه السورة مشتملةٌ على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب ، فيكون ربع القرآن .

وخرج ابنُ الأنباري عن نوفل بن فروة الأشجعي ، قال : «جاء رجُل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني ، قال : «اقرأ عِنْدَ مَنَامِكَ : { قُلْ يا أيها الكافرون } فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ »{[10]} .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس في القرآن أشدّ غيظاً لإبليس - لعنه الله - من هذه السورة ؛ لأنها توحيد ، وبراءة من الشرك{[11]} .

وقال الأصمعي : كان يقال ل { قُلْ يا أيها الكافرون } و{ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } المقشقشتان ، أي : أنهما تبرئان من النفاق .

وقال أبو عبيدة - رضي الله عنه - : كما يقشقش الهناءُ الجرب فيبرئه{[12]} .

قال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف ، والجرب في الإبل إذا قفل : قد توسَّف جلده ، وتقشّر جلده ، وتقشقش جلده .

قال ابن عباس - رضي الله عنه - : سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمدُ ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كلِّه ، فإن كان ما جئت به خيراً مما بأيدينا ، كنّا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظِّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله - عز وجل - { قُلْ يا أيها الكافرون } ، ونزل قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } [ الزمر : 64 ] ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في الحرم ، وفيه الملأ من قريش ، فقام صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك{[13]} .

وروى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك ، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه السورة فيئسوا منه وآذوه ، وآذوا أصحابه{[14]} .

فإن قيل : لم وصفهم في هذه السورة بالكافرين ، وفي السورة الأخرى بالجاهلين كما تقدم ؟

فالجوابُ : لأن هذه السورة بتمامها نزلت فيهم ، فتكون المبالغة فيها أشد ، فبولغ فيها بالوصف الأشنع ، وهو الكفر ؛ لأنه مذموم مطلقاً ، والجهل كالشجرة ، والكفر كالثمرة ، فقد يذم عند التقييد ، كقوله صلى الله عليه وسلم : «عِلْمُ الإنْسَانِ عِلمٌ لا يَنْفَعُ ، وجَهْلٌ لا يَضُرُّ » .

فإن قيل : قال في سورة التحريم : { يا أيها الذين كَفَرُواْ } [ الآية : 7 ] ، بغير «قُلْ » ، وهنا - جلَّ وعز - ذكر «قُلْ » وذكره باسم الفاعل .

فالجواب : أنه في سورة «التحريم » إنما يقال لهم يوم القيامة ، وثمَّ لا يكون رسولاً إليهم ، فإذا زال الواسطة ، ويكونون في ذلك الوقت مطيعين ، لا كافرين ، فلذلك ذكره بلفظ الماضي .

وأما هاهنا فكانوا موصوفين بالكفر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم ، فقال تعالى : { قُلْ يا أيها الكافرون } .

فإن قيل : هذا خطاب مع الكل ، وكان فيهم من يعبد الله تعالى ، كاليهود ، والنصارى ، فلا يجوز أن يقال لهم : { لا أعبدُ ما تَعْبُدُونَ } ، ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله : { وَلاَ أنْتُمَ عَابِدُونَ ما أعْبدُ } خطاباً مع الكل ؛ لأن في الكفار من آمن ، فعبد الله .

فالجواب : أن هذا الخطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين ، وهم الذين قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ، وأيضاً لو حملنا الخطاب على العموم دخله التخصيص ، وإذا حملناه على خطاب المشافهةِ لم يلزم ذلك .

فصل

قال القرطبي{[15]} : الألف واللام ترجع إلى معنى المعهود ، وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة ل «أي » ؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كُفرهِ ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم ؛ ونحوه عن الماوردي : نزلت جواباً وعتاباً ، وعنى بالكافرين قوماً معينين ، لا جميع الكافرين ؛ لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات ، أو قتل على كفره ، وهم المخاطبون بهذا القول ، وهم المذكورون .

فصل

قال ابن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن{[16]} : «قل للذين كفروا ، لا أعبد ما تعبدون » وزعم أن ذلك هو الصواب ، وذلك افتراء على ربِّ العالمين ، وتضعيف لمعنى هذه السورة ، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين ، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري ، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لُبّ وحجر ، وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل ، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى ، وتزيد تأويلاً ليس في باطلهم ، وتحريفهم ، فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا ، يا أيها الكافرون ، دليل صحة هذا أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا ، فمعناه ، قل لزيد يا زيد أقبل إلينا ، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ، وسقط من باطلهم أحسن لفظ ، وأبلغ معنى ، إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : «يا أيُّها الكَافِرُونَ » وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفرِ ، ويدخلوا في جملة أهله ، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد ، أو تقع به من جهتهم أذية ، فمن لم يقرأ : { قُلْ يا أيها الكافرون } ، كما أنزلها الله ، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبيل أهل الإسلام ألاَّ يسارعوا إلى مثلها ، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه ، التي منحه الله إياها ، وشرفه بها .

فصل في الكلام على «يا »

قال ابنُ الخطيب{[60991]} : روي عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أن «يا » نداء النفس ، و «أي » نداء القلب ، و «ها » نداء للروح{[60992]} .

وقيل «يا » نداء الغائب ، و «أي » للحاضر ، و «ها » للتنبيه ، كأنه - عزَّ وجلَّ - يقول : أدعوك ثلاثاً ، ولا تجبني مرة .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[60991]:الفخر الرازي 32/133.
[60992]:ذكره الرازي في "تفسيره" (32/133).