والقرآن يرد على هذا الحسبان بعدم جمع العظام مؤكدا وقوعه : ( بلى ! قادرين على أن نسوي بنانه ) . . والبنان أطراف الأصابع ؛ والنص يؤكد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهو تسوية البنان ، وتركيبه في موضعه كما كان ! وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه ، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ، ولا تختل عن مكانها ، بل تسوى تسوية ، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو ، مهما صغر ودق !
{ بلى قادرين } : أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين مع جمعها على تسوية بنانه .
{ على أن نسوي بنانه } : أي نجعل أصابعه كخف البعير أو حافر الفرس فلا يقدر على العمل الذي يقدر عليه الآن مع تفرقة أصابعه . كما نحن قادرون على جمع تلك العظام الدقيقة عظام البنان وردّها كما كانت كما نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والأصوات واللهجات .
{ بلى قادرين على أن نسوي بنانه } أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه أي أصابعه بأن نجعلها كخف البعير أو حوافر الحمير ، فيصبح يتناول الطعام بفمه كالكلب والبغل والحمار .
- معجزة قرآنية أثبتها العلم الصناعي الحديث وهي عدم تسوية خطوط الأصابع .
- فكما خالف تعالى بين الإِنسان والإِنسان وبين صوت وصوت فَرَّق بين خطوط الأصابع فلذا استعملت في الإمضاءات وقبلت في الشهادات .
" بلى " وقف حسن ثم تبتدئ " قادرين " . قال سيبويه : على معنى نجمعها قادرين ، " فقادرين " حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير . وقيل : المعنى بل نقدر قادرين . قال الفراء : " قادرين " نصب على الخروج من " نجمع " أي نقدر ونقوى " قادرين " على أكثر من ذلك . وقال أيضا : يصلح نصبه على التكرير أي " بلى " فليحسبنا قادرين . وقيل : المضمر ( كنا ) أي كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون . وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع " بلى قادرون " بتأويل نحن قادرون . " على أن نسوي بنانه " البنان عند العرب : الأصابع ، واحدها بنانة ، قال النابغة :
بمُخَضَّبٍ رَخْصٍ كأن بنَانَهُ *** عَنَمٌ يكادُ من اللَّطَافَةٍ يُعْقَدِ{[15603]}
وأن الموت طوعُ يدي إذا ما *** وصلت بنَانَها بالهِنْدُوَانِي
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء . وأيضا فإنها أصغر العظام ، فخصها بالذكر لذلك .
قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام ، فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها ، ونؤلف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر . وقال ابن عباس وعامة المفسرين : المعنى " على أن نسوي بنانه " أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلف الخنزير ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا ، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء . وكان الحسن يقول : جعل لك أصابع فأنت تبسطهن ، وتقبضهن بهن ، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك . وقيل : أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ، وهو كقوله تعالى : " وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " [ الواقعة :61 ] .
{ قادرين } منصوب على الحال من الضمير في نجمع والتقدير نجمعها ونحن قادرون .
{ على أن نسوي بنانه } البنان الأصابع ، وفي المعنى قولان :
أحدهما : أنه إخبار بالقدرة على البعث أي : قادرين على أن نسوي أصابعه أي : نخلقها بعد فنائها مستوية متقنة ، وإنما خص الأصابع دون سائر الأعضاء لدقة عظامها وتفرقها .
والآخر : أنه تهديد في الدنيا ، أي : قادرين على أن نجعل أصابعه مستوية ملتصقة كيد الحمار وخف الجمل فلا يمكنه تصريف يديه في منافعه والأول أليق بسياق الكلام .
ولما أسند الحسبان إلى النوع لأن منهم من يقول : لا نبعث لأننا نتفتت وننمحق ، قال مجيباً له : { بلى } أي لنجمعن عظامه وجمع أجزائه لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها من بعد ارتتاقها حال{[70108]} كونها نطفة واحدة لأن كل من قدر على التفصيل قدر على الجمع والتوصيل حال كوننا { قادرين } أي بما لنا من العظمة { على أن } .
ولما كانت تسوية الصغير أصعب ، قال : { نسوي بنانه * } أي أصابعه أو-{[70109]} سلامياته وهي عظامه الصغار التي في يديه ورجليه كل منها طول إصبع وأقل ، خصها{[70110]} لأنها أطرافه وآخر ما يتم به-{[70111]} خلقه بأن نجمع بعضها إلى بعض على ما كانت عليه قبل الموت سواء ، فالكبار بطريق الأولى لأنها أبين ، ولا فرق ببن تسويتنا ذلك من النطفة وتسويتنا له من التراب ، وهي لا تكون مسواة وهي قالب البدن{[70112]} إلا بتسوية ما عليه من لباس اللحم والعصب والجلد كما يعهدها العاهد ، فتسوية البنان كناية عن تسوية جميع البنيان كما لو قيل لك : {[70113]}هل تقدر{[70114]} على تأليف هذا الحنظل ، فقلت : نعم ، و{[70115]} على تأليف الخردل ، مع ما يفهم من تخصيصها من التنبيه على ما فيها من بديع الصنع المتأثر عنه ما لها من لطائف المنافع ، أو أن نسويها الآن فنجمعها على ما كانت عليه حال{[70116]} كونها نطفة من الاجتماع قبل فتقها وتفريقها حتى تكون كخف البعير ، فإن القادر على تفصيل الأنامل حتى تتهيأ{[70117]} للأعمال اللطيفة قادر على جمعها ، فتزول عنها تلك المنفعة . ومن قدر على تفصيل الماء بعد اختلاطه{[70118]} وجمعه بعد انفصاله قادر على جمع التراب بعد افتراقه ، وكيفما كان فهو تنبيه على التأمل في لطف تفصيل الأنامل وبديع صنعها الموجب للقطع بأن صانعها قادر على كل ما يريد ، قال في القاموس : البنان : الأصابع أو أطرافها . والسلامى - وزن حبارى : عظام صغار طول إصبع أو أقل في اليد والرجل .