في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلرِّجۡزَ إِلَىٰٓ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ} (135)

103

وفي كل مرة ينقضون عهدهم ، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم :

( فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون ) . .

جمع السياق الآيات كلها ، كأنما جاءتهم مرة واحدة . وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة . ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة ، وكانت نهايتها واحدة كذلك . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ؛ ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك . . ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة ؛ لايفيد منها شيئاً ، ولا يجد فيها عبرة . .

فأما كيف وقعت هذه الآيات ، فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله [ ص ] عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه " الظلال " نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاًمن الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها ؛ والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها ، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير ؛ وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة . .

وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس ، وعن سعيد بن جبير ، وعن قتادة ، وعن ابن إسحاق . . رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره . وهذه واحدة منها :

" حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأبى عليه ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئاً ، فخافوا أن يكون عذاباً ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ؛ فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ . فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لايبقي الزرع . فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ! فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : قد أحرزنا ! فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا : ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا ! فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ ! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فكشف عنهم فلم يؤمنوا . فأرسل الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، أو ما كان في أوعيتهم ، وجدوه دماً عبيطاً . فشكوا إلى فرعون فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب ! فقال : إنه قد سحركم ! فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً ؟ فأتوه فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل " .

والله أعلم أي ذلك كان . . والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات . فالله - سبحانه - أرسلها بقدره ، في وقت معين ، ابتلاء لقوم معينين ؛ وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون .

ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم ؛ وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم ، يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده ، ليكشف عنهم البلاء . . وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب . لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر ؛ وتفزع من ربوبية الله لهم . إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله ! . . أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلطالآفات على زروعهم ، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله البتة ! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات ، - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة ! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء ، قال لهم أصحاب " العلمية ! " الكاذبة : هذا الاتجاه خرافة " غيبية ! " وتندروا عليهم وسخروا منهم ! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلرِّجۡزَ إِلَىٰٓ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ} (135)

/133

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلرِّجۡزَ إِلَىٰٓ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ} (135)

جملة { فلما كشفنا عنهم الرجز } دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحاً في التوراة ، وحُذف هنا للإيجاز .

وقوله : { إلى أجل هم بالغوه } متعلق ب { كشفنا } باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون ، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله ، وهو الرجْز .

وجملة : { إذا هم ينكثون } جواب ( لما ) ، و ( إذا ) رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة أسمية ، فلما كان ( إذا ) حرفاً يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث ، أي : بادروا به ولم يؤخروه . وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين .

والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غَزْل ، قال تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } [ النحل : 92 ] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد ، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى : { إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] ففي قوله : { ينكثون } استعارة تبعية .

وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض ( جاسان ) ليلاً قال لفرعون بعضُ خاصته : مَاذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشاً للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الربع عشر من سفر الخروج .