وبعد تقرير تلك الحقيقة تمضي القصة في أحداثها بعد الرجفة :
( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً ؛ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه : أن اضرب بعصاك الحجر ، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً . قد علم كل أناس مشربهم . وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم . وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .
إنها رعاية الله ما زالت تظلل موسى وقومه - بعد أن كفروا فعبدوا العجل ، ثم كفروا عن الخطيئة كما أمرهم الله ، فتاب عليهم . وبعد أن طلبوا رؤية الله جهرة ، فأخذتهم الرجفة ، ثم استجاب الله لدعاء موسى فأحياهم . . تتجلى هذه الرعاية في تنظيمهم حسب فروعهم في اثنتي عشرة أمة - أي جماعة كبيرة - ترجع كل جماعة منها إلى حفيد من حفداء جدهم يعقوب - وهو إسرائيل - وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية :
( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً ) . .
وتبدو في تخصيص عين تشرب منها كل جماعة وتعيينها لهم ، فلا يعتدي بعضهم على بعض .
( وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه : أن اضرب بعصاك الحجر ، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً . قد علم كل أناس مشربهم . . )
وتبدو في تظليل الغمام لهم من شمس هذه الصحراء المحرقة ؛ وإنزال المن - وهو نوع من العسل البري - والسلوى ، وهو طائر السماني ؛ وتيسيره لهم ضماناً لطعامهم بعد ضمان شرابهم :
( وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى ) . .
وتبدو في إباحة كل هذه الطيبات لهم ، حيث لم يكن قد حرم عليهم بعد شيء بسبب عصيانهم :
( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) . .
والرعاية واضحة في هذا كله ؛ ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والإستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق : من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى . ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة . ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى :
( وما ظلمونا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .
وسيعرض السياق نماذج من ظلمهم لأنفسهم ؛ بالمعصية عن أمر الله والإلتواء عن طريقه . . وما يبلغون بهذا الإلتواء وتلك المعصية أن يظلموا الله - سبحانه - فالله غني عنهم وعن العالمين أجمعين . وما ينقص من ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على معصيته ؛ وما يزيد في ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على طاعته . إنما هم يؤذون أنفسهم ويظلمونها بالمعصية والإلتواء ، في الدنيا وفي الآخرة سواء .
تقدم تفسير هذا كله في سورة " البقرة " ، وهي مدنية ، وهذا السياق مكي ، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته ، ولله الحمد والمنة{[12274]}
وقرأ بعض من الناس «وقطّعناهم » بشد الطاء ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «وقطَعناهم » بتخفيف الطاء ، ورواها أبان عن عاصم ، ومعناه فرقناهم من القطع ، وقرأ جمهور الناس «عشْرة » بسكون الشين ، وهي لغة الحجاز وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان بخلاف «عَشرة » بفتح الشين ، وقرأت هذه الجماعة أيضاً وطلحة بن مصرف وأبو حيوة «عشِرة » بكسر الشين وهي لغة تميم ، وقال أبو حاتم والعجب أن تميماً يخففون ما كان من هذا الوزن أي أهل الحجاز يشبعون وتناقضوا في هذا الحرف ، وقوله : { أسباطاً } بدل من { اثنتي } .
والتمييز الذي بين العدد محذوف مقدر اثنتي عشرة فرقة أو قطعة أسباطاً ، وإما أن يزول عن التمييز ويقدر وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة ثم أبدل أسباطاً ، والأول أحسن وأبين ، ولا يجوز أن يكون { أسباطاً } تمييزاً لأن التمييز لا يكون إلا مفرداً نكرة ، وأيضاً فالسبط مذكر وهو قد عد مؤنثاً على أن هذه العلة لو انفردت لمنعت إذ السبط بمعنى الأمة ، قال الطبري ، وقال بعض الكوفيين لما كان السبط بمعنى الأمة غلب التأنيث وهو مثل قول الشاعر : [ الطويل ]
فإن كلاباً هذه عشر أبطن*** وأنت بريء من قبائلها العشرِ
قال القاضي أبو محمد : وأغفل هذا الكوفي جمع الأسباط ، وإن ما ذهب إليه إنما كان يجوز لو كان الكلام اثنتي عشرة سبطاً والسبط في ولد إسحاق كالقبيلة في ولد إسماعيل ، وقد قال الزجّاج وغيره : إن السبط من السبط وهو شجر .
قال القاضي أبو محمد : وإنما ا?ظهر فيه عبراني عرب .
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُُونَ }
قد تقدم في سورة البقرة أمر الحجر والاستسقاء وأين كان وأمر التظليل وإنزال المن والسلوى ، وذكرنا ذلك بما يغني عن إعادته هاهنا .
و { انبجست } معناه انفجرت إلا أن ا?نبجاس أخف من الانفجار ، وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني { كلوا من طيبات ما رزقناكم } بتوحيد الضمير .
عطف على قوله { ومن قوم موسى أمة } [ الأعراف : 159 ] إلخ ، فإن ذلك التقطيع وقع في الأمة الذين يهدون بالحق .
والتقطيع شدة في القطع وهو التفريق ، والمراد به التقسيم ، وليس المراد بهذا الخبر الذم ، ولا بالتقطيع العقاب ، لأن ذلك التقطيع منة من الله ، وهو من محاسن سياسة الشريعة الموسوية ، ومن مقدمات نظام الجماعة كما فصله السفر الرابع ، وهو سفر عدد بني إسرائيل وتقسيمهم ، وهو نظير ما فعل عمر بن الخطاب من تدوين الديوان ، وهم كانوا منتسبين إلى أسباط إسحاق ، ولكنهم لم يكونوا مقسمين عشائِر لمّا كانوا في مصر ، ولمّا اجتازوا البحر ، فكان التقسيم بعد اجتيازهم البحر الأحمر ، وقبلَ انفجار العيون ، وهو ظاهر القرآن في سورة البقرة وفي هذه السورة لقوله فيهما : { قد علم كل أناس مشربهم } وذكرهُ هنا الاستسْقاء عقب الانقسام إلى اثنتي عشرة أمة ، وذلك ضروري أن يكون قبل الاستسْقاء ، لأنه لو وقع السقي قبل التقسيم لحصل من التزاحم على الماء ما يفضي إلى الضر بالقوم ، وظاهر التوراة أنهم لما مروا بِحُوريب ، وجاء شعيب للقاء موسى : إن شعيباً أشار على موسى أن يقيم لهم رؤساء ألوف ، ورؤساء مِئات ، ورؤساء خماسين ، ورؤساء عشرات ، حسب الإصحاح 18 من الخروج ، وذلك يقتضي أن الأمة كانت منتسبة قبائِل من قبلُ ، ليسهل وضع الرؤساء على الأعداد ، ووقع في السنة الثانية من خروجهم أن الله أمر موسى أن يحصي جميع بني إسرائيل ، وأن مِوسى وهارون جمعا جميع بني إسرائيل فانتسبوا إلى عشائرهم وبيوت آبائِهم ، كما في الإصحاح الأول من سفر العدد ، وتقدم ذكر الأسباط عند قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } في سورة البقرة ( 136 ) .
وجيء باسم العدد بصيغه التأنيث في قوله : اثنتي عشرة } لأن السبط أطلق هنا على الأمة فحذف تمييز العدد لدلالة قوله : { أمماً } عليه .
و { أسباطاً } حال من الضمير المنصوب في { وقطّعناهم } ولا يجوز كونه تمييزاً لأن تمييز اثنتي عشرة ونحوه لا يكون إلاّ مفرداً .
وقوله : { أمماً } بدل من أسباط أو من أثنتي عشرة ، وعدل عن جعل أحد الحالين تمييزاً في الكلام إيجازاً وتنبيهاً على قصد المنة بكونهم أمماً من آباء أخوة . وأن كل سبط من أولئك قد صار أمة ، قال تعالى : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّرَكم } [ الأعراف : 86 ] مع ما يذكر به لفظ أسباط من تفضيلهم ، لأن الأسباط أسباط إسحاق بن إبراهيم عليه السلام .
هذا مظهر من مظاهر حكمة تقسيمهم إلى اثني عشر سبطاً ولم يعطف هذا الخبر بالفاء لإفادة أنه منة مستقلة .
وتفسير هذه الآية مضى في مشابهتها عند قوله : { وإذ استسقى موسى لقومه } في سورة البقرة ( 60 ) .
{ وانبجست } مطاوع بجس إذا شق ، والتعقيب الذي دلت عليه الفاء تعقيب مجازي تشبيهاً لقصر المهلة بالتعقيب ونظايره كثيرة في القرآن ، ومنه ما وقع في خبر الشّرب إلى أم زرع قولها : « فلقي امرأة معها ولدان كالفهديْن يلعبان من تحت خصرها برُمّانتين فطلّقني ونكحها » إذ التقدير فأعجبته فطلقني ونكحها .
ضمائر الغيبة راجعة إلى قوم موسى ، وهذه الآية نظير ما في سورة البقرة سوى اختلاف بضميري الغيبة هنا وضميري الخطاب هناك لأن ما هنالك قصد به التوبيخ .
وقد أسند فعل ( قيل ) في قوله : { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] إلى المجهول وأسند في سورة البقرة ( 58 ) إلى ضمير الجلالة { وإذ قلنا } لظهور أن هذا القول لا يصدر إلاّ من الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقطعناهم}، يعني فرقناهم، {اثنتي عشرة أسباطا أمما}، يعني فرقا، {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه} في التيه، {أن اضرب بعصاك الحجر}، ففعل، {فانبجست}، يعني فانفجرت من الحجر، {منه اثنتا عشرة عينا} ماء باردا فراتا رواء بإذن الله... كل سبط من بني إسرائيل لهم عين تجري لا يخالطهم غيرهم فيها، فذلك قوله: {قد علم كل أناس مشربهم}، يعني كل سبط مشربهم، {وظللنا عليهم الغمام} بالنهار، يعني سحابة... تقيهم من حر الشمس وهم في التيه، {وأنزلنا عليهم المن}، يعني النرنجين، {والسلوى} طيرا أحمر يشبه السمان، {كلوا من طيبات}، يعني من حلال، {ما رزقناكم} من المن والسلوى... {وما ظلمونا}، يعني وما ضرونا...
{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، يعني يضرون وينقصون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فرقناهم، يعني قوم موسى من بني إسرائيل، فرّقهم الله فجعلهم قبائل شتى، اثنتي عشرة قبيلة... ومعنى الكلام: وقطعناهم قطعا اثنتي عشرة، ثم ترجم عن القطع بالأسباط... وأما الأمم: فالجماعات، والسبط في بني إسرائيل نحو القرن...
"وأوْحَيْنا إلى مُوسَى إذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أنِ اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ فانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبهُمْ وَظَلّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ وأنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنّ والسّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمونَ".
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى إذ فرّقنا بني إسرائيل قومه اثنتي عشرة فرقة، وتيهناهم في التيه، فاستسقوا موسى من العطش وغؤور الماء "أنِ اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ "وقد بينا السبب الذي كان قومه استسقوه، وبيّنا معنى الوحي بشواهده. "فانْبَجَسَتْ": فانصبت وانفجرت من الحجر "اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا "من الماء، "قَدْ عَلِمَ كُلّ أُناسٍ" يعني: كلّ أناس من الأسباط الاثنتي عشرة "مَشرَبَهُمْ" لا يدخل سبط على غيره في شربه، "وَظَلّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ" يُكِنّهم من حرّ الشمس وأذاها، وقد بيّنا معنى الغمام فيما مضى قبل، وكذلك المنّ والسلوى. "وأنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنّ والسّلْوَى" طعاما لهم، "كُلُوا مِنْ طَيّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" يقول: وقلنا لهم: كلوا من حلال ما رزقناكم أيها الناس وطيّبناه لكم. "وَما ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"، وفي الكلام محذوف ترك ذكره استغناء بما ظهر عما ترك، وهو: فأجمعوا ذلك وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. "وَما ظَلَمُونا" يقول: وما أدخلوا علينا نقصا في ملكنا وسلطاننا بمسألتهم ما سألوا، وفعلهم ما فعلوا. "وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ": أي ينقصونها حظوظها باستبدالهم الأدنى بالخير والأرذل بالأفضل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وظلّلنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى} فيه أن جميع مؤنهم كانت من السماء بلا مؤنة ولا تعب على أنفسهم. {وما ظلمونا} أي لا أحد يقصد قصد ظلم الله، ولكن إذا تعدّوا حدود الله التي جعل لهم، وجاوزوها لهم، فقد ظلموا أنفسهم، لما رجع ضرر ذلك التعدّي إليهم.وهذه النعم التي ذكر لهم: جل وعلا، إنما جعلها لهم في حال العقوبة والابتلاء من المن والسلوى والعيون والغمام. ويدل هذا على أن عقوبات الدنيا، قد يشوبها لذة ونعمة، وكذلك لذّات الدنيا قد يمازجها شدائد وهموم؛ فإنما تخلص وتصفو هذه النعم في الآخرة، وكذلك العقوبة هنالك تخلص، وتفارق اللذات.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والسبط: الجماعة التي تجري في الأمر بسهولة لاتفاقهم في الكلمة على أنه مأخوذ من السبوط. والظلة: السترة التي تقي من الشمس، والأغلب عليها العلو. المن والسلوى. والمن: ضرب من الحلاوة يسقط على الشجر. والسلوى: طائر كالسماني...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فَرَّقهم أصنافاً، وجعلهم في التحزب أخيافاً، ثم كفاهم ما أَهَمّهُم، وأعطاهم ما لم يكن لهم بُدٌّ منه فيما نابَهم؛ فظللنا عليهم ما وقاهم أذى الحرِّ والبرد، وأنزلنا عليهم المَنَّ والسَّلوى مما نفى عنهم تعبَ الجوعِ والجهد والسعي والكد، وفجَّرنا لهم العيونَ عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عياناً، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين، ولكن ليست العِبْرةُ بأفعال الخَلْقِ ولا بأعمالهم إنما المدارُ على مشيئة الحق، سبحانه وتعالى فيما يُمضِي عليهم من فنون أحوالهم...
اعلم أن المقصود من هذه الآية، شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل: أحدهما: أنه تعالى جعلهم اثني عشر سبطا، وقد تقدم هذا في سورة البقرة، والمراد أنه تعالى فرق بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميزهم وفعل بهم ذلك لئلا يتحاسدوا فيقع فيهم الهرج والمرج. النوع الثاني: من شرح أحوال بني إسرائيل قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر} وهذه القصة أيضا قد تقدم ذكرها في سورة البقرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما مدحهم، شرع يذكرهم شيئاً مما أسبغ عليهم من النعم لأجل هؤلاء المهتدين من التكثير بعد القلة والإعزاز بعد الذلة بجعلهم ممن يؤم استعطافاً لغيرهم، ويذكر بعض عقوباتهم ترهيباً فقال: {وقطعناهم} أي فرقنا بينهم بالأشخاص بعد أن كانوا ماء واحداً من شخص واحد، وهو إسرائيل عليه السلام؛ وصرح بالكثرة بعد أن لوح بها بالتقطيع بقوله: {اثنتي عشرة} وميزه -موضع المفرد الذي هو مميز العشرة- بالجمع للإشارة إلى أن كل سبط يشتمل لكثرته على عدة قبائل بقوله: {أسباطاً} والسبط -بالكسر: ولد الولد، والقبيلة من اليهود، وهذه المادة تدور على الكثرة والبسط؛ وبين عظمتهم وكثرة انتشارهم وتشعبهم بقوله: {أمماً} أي هم أهل لأن يقصدهم الناس لما لهم من الكثرة والقوة والدين، أو أن كل أمة منهم تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى من غيرهم ديناً.
ولما وصفهم بهذه الكثرة، وكان ذلك مجرى لذكر الإنعام عليهم بالكفاية في الأكل والشرب، ذكر نعمة خارقة للعادة في الماء، وبدأ به لأنه الأصل في الحياة، وهي من نوع تقسيمهم من نفس واحدة مشيرة إلى ظلمهم وإسراعهم في المروق فقال: {وأوحينا إلى موسى إذ} أي حين {استسقاه قومه} أي طلبوا منه في برية لا ماء بها أن يسقيهم، وذلك في التيه، والتعبير بالقوم إشارة إلى تبكيتهم بكونهم أهل قوة ولم يتأسوا بموسى عليه السلام في الصبر إلى أن يأتي الله الذي أمرهم بهذا المسير بالفرج، بل طلبوا منه ذلك على الوجه المذكور في البقرة من إظهار القلق والدمدمة {أن اضرب بعصاك} أي التي جعلناها لك آية وضربت بها البحر فانفلق {الحجر} أي أيّ حجر أردته من هذا الجنس؛ وبين سبحانه سرعة امتثال موسى عليه السلام وسرعة التأثير عن ضربه بحذف: فضربه، وقوله مشيراً إليه: {فانبجست} أي فانشقت وظهرت ونبعت، وذلك كاف في تعنيفهم وذمهم على كفرهم بعد المن به، وهذا السياق الذي هو لبيان إسراعهم في المروق هو لا ينافي أن يكون على وجه الانفجار، ويكون التعنيف حينئذ أشد {منه اثنتا عشرة عيناً} على عدد الأسباط، وأشار إلى شدة تمايزها بقوله؛ {قد علم كل أناس} أي من الأسباط {مشربهم} ولما لم يتقدم للأكل ذكر ولا كان هذا سياق الامتنان، لم يذكر ما أتم هذه الآية به في البقرة.
ولما ذكر تبريد الأكباد بالماء، أتبعه تبريدها بالظل فقال: {وظللنا} أي في التيه {عليهم الغمام} أي لئلا يتأذوا بالشمس؛ ولما أتم تبريد الأكباد، أتبعه غذاء الأجساد فقال: {وأنزلنا عليهم المن} أي خبزاً {والسلوى} أي إداماً؛ وقال السموأل بن يحيى: وهو طائر صغير يشبه السماني...
ولما ذكر عظمته في ذلك، ذكر نتيجته فقال: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أي بصفة العظمة القاهرة لما نريد مما لم تعالجوه نوع معالجة، ودل على أنهم قابلوا هذا الإحسان بالطغيان والظلم والعدوان بقوله عطفاً على ما تقديره: فعدلوا عن الطبيات المأذون فيها، وأكلوا الخبائث التي حرمناها عليهم بالاصطياد يوم السبت- كما يأتي -وفعلوا غير ذلك من المحرمات، فظلموا أنفسهم بذلك: {وما ظلمونا} أي بشيء مما قابلوا فيه الإحسان بالكفران {ولكن كانوا} أي دائماً جبلة وطبعاً {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون} وهو- مع كونه من أدلة {سأصرف عن آياتي} الآية -دليل على صحة وصف هذا الرسول بالنبي، فإن من علم هذه الدقائق من أخبارهم مع كونه أمياً ولم يخالط أحداً من أحبارهم، كان صادقاً عن علام الغيوب من غير مؤيد وكذا ما بعده.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا سياق آخر من أخبار قوم موسى عليه السلام عطف على ما قبله لمشاركته إياه في كل ما يقصد به من العظات والعبر. قال تعالى:
{وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} أي وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ومنهم الظالمون والفاسقون- كما سيأتي بعد بضع آيات- قطعناهم فجعلناهم اثنتي عشرة قطعة أي فرقة تسمى أسباطا أي أمما وجماعات يمتاز كل منها بنظام خاص في معيشته وبعض شؤونه، كما يأتي قريبا في مشارب مائهم. والمشهور من معنى السبط بكسر السين أنه ولد الولد مطلقا، وقد يخص بولد البنت... فالأسباط بيان للفرق والقطع التي هي أقسام بني إسرائيل ليعلم أنها سميت بذلك، كما سميت الفرق في العرب بالقبائل، والأمم بيان للمراد من معنى الأسباط الاصطلاحي. والأمة الجماعة التي لم تؤلف بين أفرادها رابطة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد، وتقدم بيان ذلك أيضا.
{وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} تقدم في سورة البقرة مثل هذا مع تفسيره وهو {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة: 60] فأفاد ما هنا أن قومه استسقوه، وما هنالك أنه استسقى ربه لقومه. وكلاهما قد حصل. والاستسقاء طلب الماء للسقيا، وتعريف الحجر في هاتين السورتين المكية (الأعراف) والمدنية (البقرة) لتعظيم جرمه، وقد عبر عنه في التوراة بالصخر –أو تعظيم شأنه، أو كليهما، وكلاهما عظيم، وقد يكون للعهد كما تدل عليه عبارة التوراة...
والانبجاس والانفجار واحد، يقال: بجسه أي فتحه فانبجس وبجّسه (بالتشديد) فتبجس، كما يقال: فجره (كنصره) إذا شقه فانفجر، وفجره (بالتشديد) فتفجر- وزعم الطبرسي أن الانبجاس: خروج الماء بقلة، والانفجار خروجه بكثرة. وأنه عبر بهما لإفادة أنه خرج أولا قليلا ثم كثر. وأدق منه قول الراغب: الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، فاستعمل حيث ضاق المخرج اللفظان- أي وهو حجر موسى- وقال: {وفجرنا خلالهما نهرا} [الكهف: 33] {وفجرنا الأرض عيونا} [القمر: 12] ولم يقل بجسنا اه.
أقول: ولكن رواة اللغة فسروا أحدهما بالآخر، وذكروا من الشواهد عليه ما يدل على الكثرة...
وحاصل المعنى: وأوحينا إلى موسى حين استسقاه قومه فاستسقى ربه لهم (كما في آية البقرة) بأن اضرب بعصاك الحجر فضربه فنبعت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء بعدد أسباطهم {قد علم كل أناس مشربهم} أي قد عرف أناس كل سبط المكان الذي يشربون منه، إذ خص كل منهم بعين لا يأخذ الماء إلا منها لما في ذلك من النظام، واتقاء ضرر الزحام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والرعاية واضحة في هذا كله؛ ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والاستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق: من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى. ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة. ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتقطيع: شدة في القطع وهو التفريق، والمراد به التقسيم، وليس المراد بهذا الخبر الذم، ولا بالتقطيع العقاب، لأن ذلك التقطيع منة من الله، وهو من محاسن سياسة الشريعة الموسوية، ومن مقدمات نظام الجماعة كما فصله السفر الرابع، وهو سفر عدد بني إسرائيل وتقسيمهم، وهو نظير ما فعل عمر بن الخطاب من تدوين الديوان، وهم كانوا منتسبين إلى أسباط إسحاق، ولكنهم لم يكونوا مقسمين عشائِر لمّا كانوا في مصر، ولمّا اجتازوا البحر، فكان التقسيم بعد اجتيازهم البحر الأحمر، وقبلَ انفجار العيون، وهو ظاهر القرآن في سورة البقرة وفي هذه السورة لقوله فيهما: {قد علم كل أناس مشربهم} وذكرهُ هنا الاستسْقاء عقب الانقسام إلى اثنتي عشرة أمة، وذلك ضروري أن يكون قبل الاستسْقاء، لأنه لو وقع السقي قبل التقسيم لحصل من التزاحم على الماء ما يفضي إلى الضر بالقوم..
. وقوله: {أمماً} بدل من أسباط أو من أثنتي عشرة، وعدل عن جعل أحد الحالين تمييزاً في الكلام إيجازاً وتنبيهاً على قصد المنة بكونهم أمماً من آباء أخوة. وأن كل سبط من أولئك قد صار أمة، قال تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّرَكم} [الأعراف: 86] مع ما يذكر به لفظ أسباط من تفضيلهم، لأن الأسباط أسباط إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
هذا مظهر من مظاهر حكمة تقسيمهم إلى اثني عشر سبطاً ولم يعطف هذا الخبر بالفاء لإفادة أنه منة مستقلة.
وتفسير هذه الآية مضى في مشابهتها عند قوله: {وإذ استسقى موسى لقومه} في سورة البقرة (60).
{وانبجست} مطاوع بجس إذا شق، والتعقيب الذي دلت عليه الفاء تعقيب مجازي تشبيهاً لقصر المهلة بالتعقيب ونظائره كثيرة في القرآن..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قلنا: إنه ليس في القرآن قصة مكررة تكرارا كاملا من غير زيادة، إنما الذي في القرآن يكون التكرار لخبر لم يذكر في القصة في موضع، ويذكر في الموضع الآخر، ويقتضي إعادة أجزاء ذكرت ليكون التناسق بين القصة في أصلها وفي أحداثها، وكذلك الأمر في قصة أسباط بني إسرائيل، فلم يذكر تقسيمهم من قبل هذه الآيات في القرآن، وفي هذا ذكر خبر التقسيم، وحكمته، ذلك أن بني إسرائيل قطعة جماعية واحدة، فرقها الله تعالى أقساما ليعنى كل قسم بنفسه، ويندمج من بعد ذلك في المجموع بالتأليف، فإن الجماعات لا تصلح بمجموعها ابتداء، إنما تصلح بأجزائها أولا ثم تنضم الجماعات الصغيرة أو الأجزاء بعضها إلى بعض، وتتآلف صالحة متعاونة على البر والتقوى غير متعاونة على الإثم والعدوان؛ ولذلك كان في سنة الاجتماع إصلاح المجتمعات الصغيرة في القرية أو أحياء المدينة، لتتآلف مع المجتمع الأكبر، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمة الإسلامية التي ابتدأ بها المجتمع في المدينة، وكما قوى الإسلام مجتمع الأسرة، ليكون بتآلفه قوة المجتمع الأكبر.
قسم الله تعالى بني إسرائيل أسباطا، لتتعاون كما يتعاون أقارب القاتل خطأ في دفع الدية.
والأسباط جمع سبط وهو الفرع من فروع بني إسرائيل، وقال بعض الكتاب: إنه بمنزلة القبيلة في العرب، ولكن على أساس التعاون والمناصرة، لا على أساس المعاداة بين القبائل والعصبية، كما هو في جاهلية العرب.
وقوله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة} فيه إشارتان بيانيتان:
إحداهما – في التعبير بكلمة {قطعناهم} فإنها تدل على كمال الصلة بينهم، وأنهم كقطعة واحدة، قطعت أجزاؤها وهي متجاذبة يجذب بعضها بعضا لا نفور بينها ولا تنافر، بل تواصل وتراحم بينهم، ولكن ليصلح كل أمره في خيره ويلتقي الجميع على مودة ورحمة.
وثانيهما – أن قوله: {اثنتي عشرة أسباط أمما} عبر بالجمع الدال على تأنيث المعدود مع أن أسباطا ليست جمعا لمؤنث، بل جمع سبط، وهو ولد الولد ولكن قالوا إنه – سبحانه وتعالى – بعد ذلك قال: {أمما} على أنها بدل، أي أن هؤلاء الأسباط أمم فلوحظت كلمة أمم، وهي غاية التقسيم، وهي جمع أمة وهي مؤنث لفظي.
وذكر – سبحانه وتعالى – التعبير عن الأسباط بالأمم لمعنى التعاون بين كل سبط كأنه أمة مجتمعة متحيزة متعاونة في الخير، ثم من بعد ذلك يكون التعاون بين امة بني إسرائيل، وهي الجماعة الكبرى لهم. ولقد ذكر سبحانه أحكاما ذكرت من قبل على أنها نعمة في ذاتها، وتذكر الآن على أنها اجتمعت لطلب النعمة، واجتمع بعضها على الكفر بها، فذكر – سبحانه وتعالى – ما طلبوه، وذكر – سبحانه – ما أكرمهم به رفعا للألم عنهم.
وأول أمر طلبوا وهم في هذه الصحراء المجدبة الاستسقاء أي طلب الماء لشربهم فقال تعالى: {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم} ابجست أي انفجرت، وكلمة انبجست تدل على أن الانفجار كان من الحجر، لا من تراب سهل، وهو موضع من مواضع الإعجاز؛ لأن خروج الماء من الأرض السهلة كثير معهود، ولكن خروجه من الحجر هو أمر خارق للعادة وكانت المعجزة الأخرى أنها انفجرت عيونا على قدر عددهم، وهو اثنتا عشرة عينا، فكان إخبارا بأن كل سبط له عين قائمة بذاتها.
وقد قال تعالى: {قد علم كل أناس مشربهم} معناها أنه علم كل سبط من الأسباط المكان الذي يشرب منه فلا يتزاحموا على مشرب واحد، فيأخذ كل الماء براحة من غير مشاحة ولا تزاحم.
والنعمة الثانية – أن الله تعالى ظللهم بالغمام ليدفع حر النهار ووهج الشمس، فقال تعالى: {وظللنا عليهم الغمام}.
والنعمة الثالثة – أن الله أطعمهم في وسط هذه الأرض المجدبة التي لا زرع فيها ولا ثمر، فقال: {وأنزلنا عليهم المن والسلوى} وقد ذكرنا معناهما في سورة البقرة، وكيف تململوا منها مع طيبها، وجودة غذائها، وأمرهم سبحانه أمر إباحة بأن يأكلوا منها طيبة، فقال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} و (من) هنا بيانية والمعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، والمغزى وصفها بأنها طيبة كلها، ومن البيانية دالة على كمال طيبها، وكمال الإنعام بها.
ولكنهم كفروا بالنعمة ولم يقوموا بشكرها، وما ظلموا الله بكفر النعمة، ولكن ظلموا أنفسهم، بهذا الكفر لأنه انهواء لنفوسهم، وحط من كرامتهم، وتسهيل للذلة عليهم؛ لأن الطاعة عزة، والعصيان ذلة لذوي النفوس المدركة؛ ولذا قال سبحانه: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، أي لم يظلموا إلا أنفسهم، ولذا قدم الجار والمجرور على الفعل، وتأكد ظلمهم لأنفسهم وحدها ب (كانوا) الدالة على الاستمرار باستمرار عصيانهم، والله تعالى هو العدل الحكيم.