ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول :
( قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب . أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين ) .
لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه ، والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص . . إنه العذاب الذي لا دافع له ، وغضب الله المصاحب له . . ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه ؛ يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم :
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ . .
إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة ! إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم ؛ من عند أنفسكم ، لم يشرعها الله ولم يأذن بها ، فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان .
والتعبير المتكرر في القرآن : ( ما نزل الله بها من سلطان ) . . هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة . . إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله ، خفيف الوزن ، قليل الأثر ، سريع الزوال . . إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف ، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق ، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه .
وكم من كلمات براقة ، وكم من مذاهب ونظريات ، وكم من تصورات مزوقة ، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين . . ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله ، فيها من سلطانه - سبحانه - سلطان !
وفي ثقة المطمئن ، وقوة المتمكن ، يواجه هود قومه بالتحدي :
( فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين ) . .
إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله . . إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال . كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله .
ولهذا قال هود ، عليه السلام : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } أي : قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [ وغضب ]{[11873]} قيل : هو مقلوب من رجز . وعن ابن عباس : معناه السخَط والغضب .
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي : أتحاجوني{[11874]} في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة ، وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ؛ ولهذا قال : { مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال «رجس ورجز » بمعنى واحد ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
إذا سنة كانت بنجد محيطة*** فكان عليهم رجسها وعذابها
وقد يأتي الرجس أيضاً بمعنى النتن والقذر ، ويقال في الرجيع رجس وركس ، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات ، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن ، ونحوه في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية : «دعوها فإنها منتنة » وقوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } إنما يريد أنهم يخاصمونه في أن تسمى آلهة ، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات ، لكنه ورد في القرآن { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم } فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام ، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه .
قال القاضي أبو محمد : ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل ، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون ، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول ، من ذلك قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } وقوله { تبارك اسم ربك } [ الرحمن : 78 ] على أن هذا يتأول ، ومنه قول لبيد : [ الطويل ]
إلى الحوِل ثمَّ اسمُ السلام عليكما . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على تأويلات في البيت ، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان : البرهان وقوله { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } الآية وعيد وتهديد .
أجابهم بأن أخبرهم بأنّ الله قد غضب عليهم ، وأنّهم وقع عليهم رجس من الله .
والأظهر أنّ : { وقع } معناه حَق وثبت ، من قولهم للأمر المحقّق : هذا وَاقع ، وقولهم للأمر المكذوب : هذا غير واقع ، فالمعنى حَقّ وقُدر عليكم رجس وغضب . فالرّجس هو الشّيء الخبيث ، أطلق هنا مجازاً على خبث الباطن ، أي فساد النّفس كما في قوله تعالى : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وقوله { كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون } [ الأنعام : 125 ] . والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه ، وعن ابن عبّاس أنّه فَسَّر الرّجس هنا باللّعنة ، والجمهور فسّروا الرّجس هنا بالعذاب ، فيكون فعل : { وقَعَ } من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال ، إشعاراً بتحقيق وقوعه ؟ ومنهم من فسّر الرّجس بالسّخط ، وفسّر الغضب بالعذاب ، على أنّه مجاز مرسَل لأنّ العذاب أثر الغضب ، وقد أخبَر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله ، إذْ أعلمه بأنّهم إن لم يرجعوا عن الشّرك بعد أن يُبَلِّغهم الحجّة فإنّ عدم رجوعهم علامة على أنّ خبث قلوبهم متمكّن لا يزول ، ولا يرجى منهم إيمان ، كما قال الله لنوح : { لن يُؤمن من قومك إلاّ مَن قد آمن } [ هود : 136 ] .
وغضب الله تقديره : الإبعاد والعقوبة والتّحقير ، وهي آثار الغضب في الحوادث ، لأنّ حقيقة الغضب : انفعال تنشأ عنه كراهيّة المغضوب عليه وإبعادُه وإضراره .
وتأخير الغضب عن الرّجس لأنّ الرّجس ، وهو خبث نفوسهم ، قد دلّ على أنّ الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضّلال أمراً جِبلّياً ، فدلّ ذلك على أنّ الله غضب عليهم . فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزّمن الماضي بالنّسبة لوقت قول هود . واقترانُه ب { قد } للدّلالة على تقريب زمن الماضي من الحال : مثل قَد قامت الصّلاة .
وتقديم : { عليكم من ربّكم } على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب ، إيقاظاً لبصائرهم لعلّهم يبادرون بالتّوبة ، ولأنّ المجرورين متعلّقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه ، ولو ذُكرا بعد الفاعل لتُوهِّم أنّهما صفتان له ، وقدم المجرور الذي هو ضميرهم ، على الذي هو وصف ربّهم لأنّهم المقصود الأوّل بالفعل .
ولمّا قَدّم إنذارهم بغضب الله عاد إلى الاحتجاج عليهم بفساد معتقدهم فأنكر عليهم أن يجادلوا في شأن أصنامهم . والمجادلة : المحاجة .
وعبّر عن الأصنام بأنّها أسماء ، أي هي مجرّد أسماء ليست لها الحقائق التي اعتقدوها ووضعوا لها الأسماء لأجل استحضارها ، فبذلك كانت تلك الأسماء الموضوعة مجرّد ألفاظ ، لانتفاء الحقائق التي وضعوا الأسماء لأجلها . فإنّ الأسماء توضع للمسمّيات المقصودة من التّسمية ، وهم إنّما وضعوا لها الأسماء واهتمّوا بها باعتبار كون الإلهيّة جزءاً من المسمَّى الموضوع له الاسم ، وهو الدّاعي إلى التّسميّة ، فمعاني الإلهية وما يتبعها ملاحظةٌ لمن وَضَع تلك الأسماء ، فلمّا كانت المعاني المقصودة من تلك الأسماء منتفية كانت الأسماء لا مسمّياتتٍ لها بذلك الاعتبار ، سواء في ذلك ما كان منها له ذوات وأجسام كالتّماثيل والأنصاب ، وما لم تكن له ذات ، فلعلّ بعص آلهة عاد كان مجرّد اسم يذكرونه بالإلهيّة ولا يجعلون له تمثالاً ولا نُصباً ، مثل ما كانت العزى عند العرب ، فقد قيل : إنهم جعلوا لها بيتاً ولم يجعلوا لها نصباً وقد قال الله تعالى في ذلك : { إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم : 23 ] .
وذكر أهل الأخبار أنّ عادا اتّخذوا أصناماً ثلاثة وهي ( صَمُود ) بفتح الصّاد المهملة بوزن زَبُور . و { صُداء } بضمّ الصّاد المهملة مضبوطاً بخط الهَمَذاني محشي « الكشاف » في نسخة من حاشيته المسمّاة « توضيح المشكلات » ومنسوخة بخطّه ، وبدال مهملة بعدها ألف ولم أقف على ضبط الدّال بالتّشديد أو بالتّخفيف : وقد رأيت في نسخة من « الكشاف » مخطوطة موضوعاً على الدّال علامة شدّ ، ولستُ على تمام الثّقة بصحّة النّسخة ، وبعد الألف همزة كما هو في نسخ « الكشاف » و« تفسير البغوي » ، وكذلك هو في أبيات موضوعة في قصّة قوم عاد في كتب القَصص . ووقع في نسخة « تفسير ابن عطيّة » وفي « مروج الذّهب » للمسعودي ، وفي نسخه من شرح ابن بدرون على قصيدة ابن عبدون الأندلسِي بدون همزة بعد الألف ) . و ( الهباء ) بالمدّ في آخره مضبوطاً بخطّ الهمذاني في نسخة حاشيته على « الكشاف » ، وفي نسخة « الكشاف » المطبوعة ، وفي « تفسيري » البغوي والخازن ، وفي الأبيات المذكورة آنفاً . ووقع في نسخة قلمية من « الكشاف » بألف دون مدّ . ولم أقف على ضبط الهاء ، ولم أر ذكر صداء والهباء فيما رأيت من كتب اللّغة .
وعطف على ضمير المخاطبين : { وآبَاؤكم } لأنّ من آبائهم من وضع لهم تلك الأسماء ، فالواضعون وضعوا وسَمَّوْا ، والمقلّدون سمَّوْا ولم يضَعوا ، واشترك الفريقان في أنّهم يذكرون أسماء لا مسمّيات لها .
و { سمّيتموها } معناه : ذكرتموها بألسنتكم ، كما يقال : سمّ الله ، أي ذاكر اسمه ، فيكون سمّى بمعنى ذكر لفظ الاسم ، والألفاظ كلّها أسماء لمدلولاتها ، وأصل اللّغة أسماء قال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلّها } [ البقرة : 31 ] ، وقال لبيد :
إلى الحول ثمّ اسمُ السّلامُ عليكُما
أي لفظه . وليس المراد من التّسمية في الآية وضع الاسم للمسمّى ، كما يقال : سمّيت ولدي كذا ، لأنّ المخاطبين وكثيراً من آبائهم لاحظّ لهم في تسميّة الأصنام ، وإنّما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشّرك واتّخذوه ديناً وعلَّموه أبناءهم وقومهم ، ولأجل هذا المعنى المقصود من التّسمية لم يُذكر لفعل « سمّيتم » مفعول ثان ولا متعلِّق ، بل اقتصر على مفعول واحد .
والسلطانُ : الحجّة التي يصدّق بها المخالفُ ، سمّيت سلطاناً لأنّها تتسلّط على نفس المعارض وتقنعه ، ونَفَى أن تكون الحجّة منزلة من الله لأنّ شأن الحجّة في مثل هذا أن يكون مخبَراً بها من جانب الله تعالى ، لأنّ أمور الغيب ممّا استأثر الله بعلمه . وأعظم المغيَّبات ثبوت الإلهيّة لأنّها قد يَقصر العمل عن إدراكها فمن شأنها أن تُتلقى من قبل الوحي الإلهي .
والفاء في قوله : { فانتظروا } لتفريع هذا الإنذار والتّهديد السّابق ، لأنّ وقوع الغضب والرّجس عليهم ، ومكابرتهم واحتجاجهم لما لا حجّة له ، ينشأ عن ذلك التّهديد بانتظار العذاب .
وصيغة الأمر للتّهديد مثل : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] . والانتظار افتعال من النّظر بمعنى التّرقّب ، كأنّ المخاطب أمِر بالتّرقّب فارْتقبَ .
ومفعول : { انتظروا } محذوف دلّ عليه قوله : { رجس وغضب } أي فانتظروا عقاباً .
وقوله : { إني معكم من المنتظرين } استيناف بياني لأنّ تهديده إياهم يثير سؤالاً في نفوسهم أن يقولوا : إذا كنّا ننتظر العذاب فماذا يكون حالُك ، فبيّن أنّه ينتظر معهم ، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تَلْقِيناً لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } فهودٌ يخاف أن يشمله العذاب النّازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث : أنّ أمّ سلمة قالت : « أنهلك وفينا الصّالحون » قال : " نعم إذا كثر الخبث " . وفي الحديث الآخر : " ثمّ يحشرون على نيّاتهم " ويجوز أن ينزّل بهم العذاب ويراه هود ولكنّه لا يصيبه ، وقد روي ذلك في قصّته ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضاً في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} هود: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب}، يعني إثم وعذاب، {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} إنها آلهة، {ما نزل الله بها من سلطان}، يعني من كتاب لكم فيه حجة بأن معه شريكا، {فانتظروا} العذاب {إني معكم من المنتظرين} بكم العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حلّ بكم عذاب وغضب من الله... ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: الرجز: السخط.
وأما قوله:"أتُجادِلُونَنِي في أسْماءٍ سَمّيْتمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ" فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سميتموها أصناما لا تضرّ ولا تنفع أنتم وآباؤكم "ما نَزّلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ "يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجون بها ولا معذرة تعتذرون بها. لأن العبادة إنما هي لمن ضرّ ونفع وأثاب على الطاعة وعاقب على المعصية ورزق ومنع، فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ، إلاّ أن تتخذ منه آلة، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه لأن الله يأذن بذلك، فيعذر من عبده بأنه يعبده اتباعا منه أمر الله في عبادته إياه، ولا هو إذ كان الله لم يأذن في عبادته مما يرجى نفعه أو يخاف ضرّه في عاجل أو آجل، فيعبد رجاء نفعه أو دفع ضرّه." فانْتَظِرُوا إنّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرينَ" يقول: فانتظروا حكم الله فينا وفيكم، إني معكم من المنتظرين حكمه وفصل قضائه فينا وفيكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب}... قال بعضهم: الرجس العذاب؛ أي وجب عليكم العذاب بتكذيبكم هودا أو تقليدكم آباءكم في عبادتكم غير الله. {وغضب} وهو العذاب أيضا. وجائز أن يكون الرّجس ههنا الخذلان وحرمان التوفيق والمعونة؛ أي وقع عليكم، ووجب، الخذلان وحرمان التوفيق باختياركم ما اخترتم. وقال بعضهم: الرجس هو الإثم والخبث كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج: 30]
{أتجادلونني في أسماء سمّيتموها} ومجادلتهم ما قالوا {أجئتنا لنعبد الله وحده} ويحتمل {في أسماء} أي بأسماء {سمّيتموها}...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المعنى أتنازعونني في أسماء سميتموها يعني تسميتهم ما يعبدون من دون الله آلهة، ما أنزل الله عليكم بذلك حجة بما عبدتم، فالبينة عليكم بما ادعيتم وسميتم، وليس علي أن آتيكم بالبينة على ما تعبدون من دون الله بل ذلك عليكم، وعلي أن آتيكم بسلطان مبين أن الله تعالى هو المعبود وحده دون من سواه وأني رسوله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم} أي حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع. والرجس: العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب.
{فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} في أشياء ما هي إلاّ أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة. ومعنى الإلهية فيها معدوم محال وجوده. وهذا كقوله تعالى: {مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شيء}...
...وحاصل الكلام في الآية: أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفرا، وهو المراد من قوله: {قد وقع عليكم من ربكم رجس} ثم خصهم بمزيد الغضب، وهو قوله: {وغضب}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول، وكان قد علم من محاورته صلى الله عليه وسلم لهم الحلم عنهم، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له، فشفى غليل هذا التشوف بقوله: {قال قد وقع} أي حق ووجب وقرب أن يقع {عليكم من ربكم} أي الذي غركم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم {رجس} أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع أقصاكم وأدناكم موجب لشدة اضطرابكم {وغضب} أي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها. ولما أخبرهم بذلك، بين لهم أن سببه كلامهم هذا في سياق الإنكار فقال: {أتجادلونني} ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على الأسماء لكونها خالية من كل معنى، قال: {في أسماء} ثم بين أنه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال: {سميتموها أنتم وآباؤكم} ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يشاء وأن يأمر بالخضوع لمن يشاء، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم منه نفي الإنزال: {ما نزل الله} أي الذي ليس الأمر إلا له {بها} أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها، وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل يأتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتدريج فقصد -لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج- النفي بكل اعتبار، سواء كان تجديداً أو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناه حتى يكرر 151 عليهم الأمر فيه مرة بعد أخرى، فيعلموا أن ذلك أمر حتم لا بد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل لأجل أنهم لم يعقلوا معناه، دل ذلك قطعاً على أن الأمر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى محض من شأن الإنسان ركوبه بلا دليل أصلاً. ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهره في الإنجاز، وإنما معناه الوجوب الذي لا بد منه فقال: {فانتظروا} ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله: {إني} وأشار بقوله: {معكم} إلى أنه لا يفارقهم لخشيته منهم ولا غيرها {من المنتظرين}.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
...قال الجشمي: دلت الآية على فساد التقليد، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم. وتدل على أن المعارف مكتسبة. وتدل على بطلان مذهب لا دليل عليه. ويدل قوله: {أتجادلونني} على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِين} أي فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم "فائتنا بما تعدنا ""إني معكم من المنتظرين" ولكنني موقن وأنتم مرتابون، وجاد وأنتم هازلون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...التعبير المتكرر في القرآن: (ما نزل الله بها من سلطان).. هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة.. إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله، خفيف الوزن، قليل الأثر، سريع الزوال.. إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه. وكم من كلمات براقة، وكم من مذاهب ونظريات، وكم من تصورات مزوقة، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين.. ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله، فيها من سلطانه -سبحانه- سلطان! وفي ثقة المطمئن، وقوة المتمكن، يواجه هود قومه بالتحدي: (فانتظروا، إني معكم من المنتظرين).. إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله.. إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال. كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... فالرّجس هو الشّيء الخبيث، أطلق هنا مجازاً على خبث الباطن، أي فساد النّفس كما في قوله تعالى: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125] وقوله {كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون} [الأنعام: 125]. والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه،...
ومنهم من فسّر الرّجس بالسّخط، وفسّر الغضب بالعذاب، على أنّه مجاز مرسَل لأنّ العذاب أثر الغضب، وقد أخبَر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله، إذْ أعلمه بأنّهم إن لم يرجعوا عن الشّرك بعد أن يُبَلِّغهم الحجّة فإنّ عدم رجوعهم علامة على أنّ خبث قلوبهم متمكّن لا يزول، ولا يرجى منهم إيمان، كما قال الله لنوح: {لن يُؤمن من قومك إلاّ مَن قد آمن} [هود: 136]. وغضب الله تقديره: الإبعاد والعقوبة والتّحقير، وهي آثار الغضب في الحوادث، لأنّ حقيقة الغضب: انفعال تنشأ عنه كراهيّة المغضوب عليه وإبعادُه وإضراره. وتأخير الغضب عن الرّجس لأنّ الرّجس، وهو خبث نفوسهم، قد دلّ على أنّ الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضّلال أمراً جِبلّياً، فدلّ ذلك على أنّ الله غضب عليهم. فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزّمن الماضي بالنّسبة لوقت قول هود. واقترانُه ب {قد} للدّلالة على تقريب زمن الماضي من الحال: مثل قَد قامت الصّلاة...
وتقديم: {عليكم من ربّكم} على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب، إيقاظاً لبصائرهم لعلّهم يبادرون بالتّوبة، ولأنّ المجرورين متعلّقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه، ولو ذُكرا بعد الفاعل لتُوهِّم أنّهما صفتان له، وقدم المجرور الذي هو ضميرهم، على الذي هو وصف ربّهم لأنّهم المقصود الأوّل بالفعل...
{وآبَاؤكم} لأنّ من آبائهم من وضع لهم تلك الأسماء، فالواضعون وضعوا وسَمَّوْا، والمقلّدون سمَّوْا ولم يضَعوا، واشترك الفريقان في أنّهم يذكرون أسماء لا مسمّيات لها...
{سمّيتموها} معناه: ذكرتموها بألسنتكم، كما يقال: سمّ الله، أي ذاكر اسمه، فيكون سمّى بمعنى ذكر لفظ الاسم، والألفاظ كلّها أسماء لمدلولاتها، وأصل اللّغة أسماء قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلّها} [البقرة: 31]، وقال لبيد: إلى الحول ثمّ اسمُ السّلامُ عليكُما أي لفظه. وليس المراد من التّسمية في الآية وضع الاسم للمسمّى، كما يقال: سمّيت ولدي كذا، لأنّ المخاطبين وكثيراً من آبائهم لاحظّ لهم في تسميّة الأصنام، وإنّما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشّرك واتّخذوه ديناً وعلَّموه أبناءهم وقومهم، ولأجل هذا المعنى المقصود من التّسمية لم يُذكر لفعل « سمّيتم» مفعول ثان ولا متعلِّق، بل اقتصر على مفعول واحد...
والانتظار افتعال من النّظر بمعنى التّرقّب، كأنّ المخاطب أمِر بالتّرقّب فارْتقبَ. ومفعول: {انتظروا} محذوف دلّ عليه قوله: {رجس وغضب} أي فانتظروا عقاباً...
وقوله: {إني معكم من المنتظرين} استيناف بياني لأنّ تهديده إياهم يثير سؤالاً في نفوسهم أن يقولوا: إذا كنّا ننتظر العذاب فماذا يكون حالُك، فبيّن أنّه ينتظر معهم، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تَلْقِيناً لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} فهودٌ يخاف أن يشمله العذاب النّازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث: أنّ أمّ سلمة قالت: « أنهلك وفينا الصّالحون» قال:"نعم إذا كثر الخبث". وفي الحديث الآخر: "ثمّ يحشرون على نيّاتهم "ويجوز أن ينزّل بهم العذاب ويراه هود ولكنّه لا يصيبه، وقد روي ذلك في قصّته ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضاً في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكنهم مع هذا التذكير الواعظ المرشد، لم يهتدوا، بل قالوا مجادلين:
{أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}.
يستنكرون أن يجيئهم، ليدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، و (نذر)، أي نترك ما كان يعبد آباؤنا. وهكذا يذهب بهم الغلو في الكفر إلى درجة أن يعتبروا أمرا نكر ا يستحق الاستنكار أن يعبدوا الله ويتركوا ما كان عليه آباؤهم، وهكذا قال المشركون، عند قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)} (البقرة) أنذرهم هود بعذاب شديد فتحدوه أن ينزله، وقالوا: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} تحدوا هود أن ينزل الله العذاب الذي هددهم به، وطلبوا من نبيهم أن ينزله كأن الأمر بينهم وبينه، وذلك للاستمرار على كفرهم وجحودهم، إذ إنهم لا يعتبرونه مرسلا من الله تعالى، ولقد وقع بهم ما استعجلوه، وقال لهم قبل وقوعه: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان}.
وقد أنزل الله – تعالى – بهم عذابين أحدهما (الرجس)، وهو الضلال الذي أدى إلى هذا الكفر، (وغضب الله) وهو وحده عذاب من الله، وسيؤدي إلى العذاب الذي نزل بهم في الدنيا والآخرة وإنه لقريب؛ ولذا: {فانتظروا إني معكم من المنتظرين}.
وقد اشتمل كلام هود – عليه السلام – على أمور ثلاثة هي إشارات بيانية:
أولها قوله: {أتجادلونني في أسماء سميتموها} فهذا استفهام توبيخي على ما وقعوا من عبادة أشياء لا تنفع ولا تضر.
ثانيها – أنها لا وجود لها في ذاتها إلا أن تكون أحجارا، ليس لها إلا أسماؤهما الباطلة التي سموا بها.
ثالثها – انه ما أنزل معهما بحجة تسوغ عبادتها، أو قوة فيها تكون سلطانا لها.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
رجس: جاءت الكلمة في القرآن بمعان عديدة منها النجس المادي أو المعنوي والخزي والضلالة والغواية والانحراف وانغلاق الذهن والصد عن الهدى والغضب أو العذاب الرباني. وهنا بأحد المعنيين الأخيرين ...