في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} (15)

والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ؛ واختلت فيها المقاييس ، واضطربت فيها القيم ، وضاعت فيها الأصول :

( إذ تلقونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ؛ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) . .

وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج ، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام :

( إذ تلقونه بألسنتكم ) . . لسان يتلقى عن لسان ، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر . حتى لكأن القول لا يمر على الآذان ، ولا تتملاه الرؤوس ، ولا تتدبره القلوب ! ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) . . بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم . إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه ، قبل أن تستقر في المدارك ، وقبل أن تتلقاها العقول . . ( وتحسبونه هينا )أن تقذفوا عرض رسول الله ، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية ؛ وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله . وأن تمسوا عصمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصلته بربه ، ورعاية الله له . . ( وتحسبونه هينا ) . . ( وهو عند الله عظيم ) . . وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي ، وتضج منه الأرض والسماء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} (15)

ثم قال تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن جبير : أي : يرويه بعضكم عن بعض ، يقول هذا : سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ، وذكر بعضهم كذا .

وقرأ آخرون " إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ " . وفي صحيح البخاري عن عائشة : أنها كانت تقرؤها كذلك{[20919]} وتقول : هو مِنْ وَلَق القول . يعني : الكذب الذي يستمر صاحبه عليه{[20920]} ، تقول العرب : وَلَق فلان في السير : إذا استمر فيه{[20921]} ، والقراءة الأولى أشهر ، وعليها الجمهور ، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة .

قال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن نافع بن عمر{[20922]} ، عن ابن أبي مليكة ، [ عن عائشة أنها كانت تقرأ : " إِذْ تَلقُونَه " وتقول : إنما هو وَلَق القول - والوَلَق : الكذب . قال ابن أبي مليكة{[20923]} ] : هي أعلم به من غيرها .

وقوله : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : تقولون ما لا تعلمون .

ثم قال تعالى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي : تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين ، وتحسبون ذلك يسيرا [ سهلا ]{[20924]} ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا ، فكيف وهي زوجة النبي الأمي ، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل ! الله يغار لهذا ، وهو سبحانه وتعالى ، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك ، حاشا وكَلا ولما [ لم يكن ذلك ]{[20925]} فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء ، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ؟ ! ولهذا قال تعالى { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، وفي الصحيحين :

إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله ، لا يدري ما تَبْلُغ ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض " وفي رواية : " لا يلقي لها بالا " {[20926]} .


[20919]:- صحيح البخاري برقم (4144 ، 4752).
[20920]:- في ف : "فيه".
[20921]:- صحيح البخاري برقم (4144).
[20922]:- في ف ، أ : "نافع ، عن ابن عمر".
[20923]:- زيادة من ف ، أ.
[20924]:- زيادة من ف ، أ.
[20925]:- زيادة من ف ، أ.
[20926]:- صحيح البخاري برقم (6478) وصحيح مسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} (15)

وقرأ محمد بن السميفع «إذ تُلْقُونه » بضم التاء وسكون اللام وضم القاف من لإلقاء ، وهذه قراءة بينة وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «إذ تتلقونه » بضم التاء من التلقي بتاءين ، وقرأ جمهور السبعة «إذ تلقونه » بحذف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام وهو ايضاً من التلقي ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أتلقونه » بإدغام الذال في التاء ، وقرأ ابن كثير «إذ تلقونه » بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء وهذه قراءة قلقة لأنها تقتضي اجتماع ساكنين وليس كالإدغام في قراءة من قرأ فلا «تناجوا{[8638]} ولا تنابزوا »{[8639]} لأن لدونة الألف الساكنة وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا يحسن مع سكون الدال ، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنها وهي أعلم الناس بهذا الأمر «إذ تَلِقُونه » بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف ، ومعنى هذه القراءة من قول العرب ولق الرجل ولقاً إذا كذب قال ابن سيده في المحكم قرىء «إذ تلقونه » وحكى أَهل اللغة أَنها من ولق إذا كذب فجاؤوا بالمعتدي شاهداً على غير المعتدي وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه فحذف حرف الجر ووصل بالضمير{[8640]} ، وحكى الطبري وغيره أَن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء كعدو في إثر عدو وكلام في إثر كلام يقال ولق في سيره إذا أسرع ومنه قول الشاعر :

«جاءت به عنس من الشام تلق »{[8641]} . . . وقوله تعالى : { وتقولون بأفواهكم } مبالغة وإلزام وتأكيد .

والضمير في قوله { وتحسبونه } للحديث والخوض فيه والإذاعة له .


[8638]:من قوله تعالى في الآية (9) من سورة (المجادلة): {فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول}.
[8639]:من قوله تعالى في الآية (11) من سورة (الحجرات): {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب}.
[8640]:نقل القرطبي كلام ابن عطية من أول قوله: "وقرأ محمد بن السميفع..." إلى قوله: "ووصل الضمير" ولم ينسبه إلى ابن عطية إلا من أول قوله: "وعندي أنه أراد"، فقد قال: "وقال عطية: وعندي...الخ" مع أن هذا الكلام الأخير ليس من كلام ابن عطية بل هو من كلام ابن سيده، ويدل على ذلك أن اللسان نقل هذا الكلام عن ابن سيده وفيه هذه الجملة (راجع اللسان ـ ولق ـ)، وأيضا اعتاد ابن عطية عندما يكون الكلام أو الرأي له أن يبين ذلك بقوله: "قال القاضي أبو محمد" أو نحو ذلك، ولم أجد مثل هذه الإشارة في الأصول.
[8641]:هذا بيت من عدة أبيات من مشطور الرجز، قالها القلاح بن حزن المنقري، ذكرها صاحب اللسان (زلق)، وهي: إن الجليد زلق وزملق كذنب العقرب شوال غلق جاءت به عنس من الشأم تلق يدعى الجليد وهو فينا الزملق لا آمن جليسه ولا أنق مجوع البطن كلابي الخلق ويروى (الحصين) بدلا من (الجليد)، قال صاحب اللسان: وهو خطأ لقوله بعد ذلك: يدعى الجليد، والزلق: السريع الغضب، والزملق: الخفيف الطائش أو الذي ينزل من مجرد الحديث مع المرأة قبل المباشرة، والغلق: السيء الخلق، والعنس: الناقة القوية، ومعنى (تلق): تسرع، وهو الشاهد هنا، فالولق بمعنى الإسراع، ومن العجيب أن صاحب اللسان أعاد الاستشهاد بهذه الأبيات في (ولق) بمعنى أسرع، لكنه نسبها للشماخ، ولم نجدها في ديوانه. وحذف حرف الجر ووصل الضمير الذي نقله ابن عطية عن ابن سيده أمر معروف في اللغة، ومن شواهده قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا}، أي: اختار من قومه، فحذف حرف الجر ووصل الضمير.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} (15)

{ إذ } ظرف متعلق ب { أفضتم } [ النور : 14 ] والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها .

وأصل { تلقونه } تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما . وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير ، وتقدم في قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات } [ البقرة : 37 ] أي علمها ولقنها ، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ :

إذا ما راية رُفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين

وفي الحديث : « من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمن بيمينه . . » الحديث ، وذلك بتشبيه التهيُؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو إطلاقه في قوله : { إذ تلقونه بألسنتكم } . ففي قوله : { بألسنتكم } تشبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آلة للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء . وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازاً بعلاقة الأيلولة . وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث . وهذا تعريض بالتوبيخ أيضاً .

وأما قوله : { وتقولون بأفواهكم } فوجه ذكر { بأفواهكم } مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله : { ما ليس لكم به علم } ، أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه .

وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين : أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر فيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذاباً . وفي الحديث : ب « حسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع » أو رجل مموه مُراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام } [ البقرة : 204 ] وقال : { كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [ الصف : 3 ] .

هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به . وفي الحديث : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان » .

وزاد في توبيخهم بقوله : { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } ، أي تحسبون الحديث بالقذف أمراً هيّناً . وإنما حسبوه هيِّناً لأنهم استخفُّوا الغيبة والطعن في الناس استصحاباً لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يرعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك .

فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئاً هيناً وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق .

والهيِّن : مشتق من الهوان ، وهوان الشيء عدم توقيره واللمبالاة بشأنه ، يقال : هان على فلان كذا ، أي لم يعد ذلك أمراً مهماً ، والمعنى : شيئاً هيِّناً . وإنما حسبوه هيِّناً مع أن الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآي في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } [ النور : 4 ] الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية ، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك ، أو حسبوه هيِّناً لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثاً . وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسرِّ والعلانية .

ومعنى : { عند الله } في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفاً في قوله تعالى : { فأولئك عند الله هم الكاذبون } [ النور : 13 ] .