وقوله : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إنما يأمركم عدوّكم الشيطان بالأفعال السيئة ، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه ، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم ، فيدخل{[3053]} في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا .
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 169 )
وقوله تعالى : { إنما يأمركم } الآية ، { إنما } تصلح للحصر ، وقد تجيء غير حاصرة بل للمبالغة( {[1538]} ) كقولك «إنما الشجاع عنترة » ، كأنك تحاول الحصر أو توهمه ، فإنما يعرف معنى { إنما } بقرينة الكلام الذي هي فيه ، فهي في هذه الآية حاصرة ، وأمر الشيطان إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور ، وإما بوسوسته ، فإذا أطيع نفذ أمره .
و { السوء } مصدر من ساء يسوء فهي المعاصي وما تسوء عاقبته( {[1539]} ) ، و { الفحشاء } قال السدي : هي الزنا ، وقيل : كل ما بلغ حداً من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ ، وقيل : ما تفاحش ذكره ، وأصل الفحش قبح المنظر كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
وجيدٍ كجيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ . . . إذا هِيَ نصَّتْهُ ولا بمعطَّلِ( {[1540]} )
ثم استعملت اللفظة فيما يستقبح من المعاني ، والشرع هو الذي يحسن ويقبح ، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء ، و { ما لا تعلمون } : قال الطبري : يريد به حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها وجعلوه شرعاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما يأمركم بالسوء}: يعني بالإثم.
{والفحشاء}: يعني وبالمعاصي، لأنه لكم عدو مبين.
{وأن تقولوا على الله} بأنه حرم عليكم {ما لا تعلمون} أنتم أنه حرمه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: (إنّمَا يَأمُرُكُمْ الشيطان بالسّوء والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) والسوء: الإثم. وأما الفحشاء فهي كل ما استفحش ذكره وقبح مسموعه. وقيل إن السوء الذي ذكره الله هو معاصي الله، فإن كان ذلك كذلك، فإنما سماها الله سوءا لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل إن الفحشاء: الزنا فإن كان ذلك كذلك، فإنما يسمى لقبح مسموعه، ومكروه ما يذكر به فاعله.
"وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ": فهو ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي، ويزعمون أن الله حرم ذلك، فقال تعالى ذكره لهم: "ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْترُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ"، وأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن قيلهم إن الله حرم هذا من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحله لهم وطيبه، ولم يحرّم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته طاعة منهم للشيطان، واتباعا منهم خطواته، واقتفاءً منهم آثار أسلافهم الضلاّل وآبائهم الجهال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جهالاً، وعن الحق ومنهاجه ضلالاً وإسرافا منهم، كما أنزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى ذكره: "وَإذَا قيلَ لَهُمُ اتّبعُوا ما أنْزلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْيَنْا عَلَيْهِ آباءَنا أوْ لَوْ كانَ آباؤهمْ لا يَعْقلُونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدُون".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل أن يكون السوء ما خفي من المعاصي، والفحشاء ما ظهر منها، وقيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد من نحو الزنى وشرب الخمر وغيره، وقيل: الفحشاء ما فحش في العقل، والسوء ما ينتهي بالنهي عنه.
وقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}؛ يخرج على الأول، وهو السوء والفحشاء، يأمرهم بذلك، فيقولون. الله أمرنا بها،
ويحتمل قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ما قالوا: إن الله حرم هذه الأشياء أو القول على الله ما لا يعلمون بما لا يليق به من الولد وإشراك غيره في عبادته، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهو قولكم: هذا حلال وهذا حرام، بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه...
فإن قلت: كيف كان الشيطان آمراً مع قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42] قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتني نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه؛ ولذلك قال: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119] وقال الله تعالى: {إِنَّ النفس لأَمّارَةٌ بالسوء} [يوسف: 53] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت...
وأما قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} فهذا كالتفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثة:
أولها: السوء، وهو متناول جميع المعاصي سواء [أكانت] تلك المعاصي من أفعال الجوارح [أم] من أفعال القلوب.
وثانيها: الفحشاء وهي نوع من السوء، لأنها أقبح أنواعه، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي.
وثالثها: {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وكأنه أقبح أنواع الفحشاء، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله...
المسألة الثانية: دلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة {إنما} وهي للحصر، وقال بعض العارفين: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر وذلك يدل على أنواع:
إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر،
وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية...
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} يتناول جميع المذاهب الفاسدة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
إنما يأمركم عدوّكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم لم يكتف بذلك، حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به، وأنه أقبح الأشياء، وأعظمها مفسدة فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} أي: الشر الذي يسوء صاحبه، فيدخل في ذلك، جميع المعاصي، فيكون قوله: {وَالْفَحْشَاءِ} من باب عطف الخاص على العام، لأن الفحشاء من المعاصي، ما تناهى قبحه، كالزنا، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، والبخل ونحو ذلك، مما يستفحشه من له عقل، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: الله خلق هذا الصنف من المخلوقات، للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك، فقد قال على الله بلا علم، ومن أعظم القول على الله بلا علم، أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله، على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال، ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم، من أكبر المحرمات، وأشملها، وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها، فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده، ويبذلون مكرهم وخداعهم، على إغواء الخلق بما يقدرون عليه.
وأما الله تعالى، فإنه يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلينظر العبد نفسه، مع أي الداعيين هو، ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية، الذي كل الفلاح بطاعته، وكل الفوز في خدمته، وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة، الذي لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، أم تتبع داعي الشيطان، الذي هو عدو الإنسان، الذي يريد لك الشر، ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته، وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشر، ولا ينهى إلا عن خير.