اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (169)

قوله : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ :

أولها : السُّوء ، وهو : متناول جميع المعاصي ، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح ، أو من أفعال القلوب .

وسُمِّي السُّوء سوءاً ؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه ، وهو مصدر : " سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً " إذا أحزنه ، و " سُؤْتُهُ ، فَسِيءَ " إذا أحزنته ، فحزن ؛ قال تعالى : { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] ؛ قال الشَّاعر : [ السريع ]

889 ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي***فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ

أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ***لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ{[20]}

وثانيها : الفحشاء : وهو مصدر من الفحش ؛ كالبأساء من البأس ، والفحش : قبح المنظر .

قال امْرُؤ القَيْسِ : [ الطويل ]

890 - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِش *** إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ{[21]}

وتوسِّع فيه ، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً .

والفَحْشَاءُ : نوعٌ من السُّوء ، كأنَّها أقبح أنواعه ، وهي : ما يستعظم ، ويستفحش من المعاصي .

وثالثها : { أَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فكأنَّه أقبح الأشياء ؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } .

فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر ، والكفر ، والجهل بالله .

وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّه قال : " الفَحْشَاءُ " من المعاصي : ما فيه حَدٌّ ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه .

وقال السُّدِّيُّ : هي الزِّنا{[22]} .

وقيل : هي البخل ، { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من تحريم الحرث والأنعام .

وقال مُقَاتِلٌ : كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء ، فإنَّه الزِّنا ، إلاَّ قوله : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } [ البقرة : 368 ] فإنه منع الزكاة .

وقوله : " وَأَنْ تَقُولُوا " عطفٌ على قوله : " بالسُّوء " ، تقديره : " وبِأَنْ تَقُولُوا " فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب ؛ بحسب قول الخليل ، وسيبويه{[23]} .

قال الطَّبَرِيُّ : يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما ، مما جعلوه شرعاً .

فصل في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح .

دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح ؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة " إنَّمَا " وهي للحصر .

وقد قال بعضهم : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير ؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ ؛ وذلك على أنواع : إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل ، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشقِّ ؛ ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة .

وتناولت الآية الكريمة جميع المذاهب الفاسدة ، بل تناولت مقلِّد الحقِّ ؛ لأنَّه قال مالا يعلمه ؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ ؛ لاندراجه تحت هذا الذَّمِّ .

وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس ، [ وجوابهم : أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ ، كان العمل بالقياس ]{[24]} قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم .


[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.