وعندما يصل إلى حقيقة البيعة ، وإلى خاطر النكث وخاطر الوفاء ، يلتفت بالحديث إلى المخلفين من الأعراب ، الذين أبوا أن يخرجوا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لسوء ظنهم بالله ، ولتوقعهم الشر والضر للمؤمنين الخارجين ، الذاهبين إلى قريش في عقر دارها ، وهي غزت المدينة قبل ذلك عامين متواليين . . يلتفت إليهم لينبى ء الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما سيعتذرون به إليه بعد عودته سالما هو ومن معه ، وقد هادنته قريش ولم تقاتله ، وعقدت معه معاهدة يبدو فيها - مهما كانت شروطها - التراجع من قريش ، واعتبار محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ندا لها تهادنه وتتقي خصومته . ويكشف له عن الأسباب الحقيقية لعدم خروجهم معه ، ويفضحهم ويقفهم مكشوفين أمام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأمام المؤمنين . كما ينبئه بما فيه البشرى له وللخارجين معه ؛ وهو أنهم سيخرجون إلى مغانم قريبة ميسورة ، وأن المخلفين من الأعراب سيطلبون الخروج معه لينالوا من هذه الغنائم السهلة . ويلقنه طريقة معاملتهم حينئذ والرد عليهم . فلا يقبل منهم الخروج معه في هذا الوجه القريب الميسور الذي سيقتصر على من خرجوا من قبل وحضروا الحديبية . إنما ينبئهم بأن هنالك وجها آخر فيه مشقة وفيه قتال مع قوم أولي بأس شديد . فإن كانوا حقا يريدون الخروج فليخرجوا يومئذ ، حيث يقسم الله لهم بما يريد . فإن أطاعوا كان لهم الأجر الكبير ، وإن عصوا كما عصوا من قبل كان لهم العذاب الشديد :
سيقول لك المخلفون من الأعراب : شغلتنا أموالنا وأهلونا ، فاستغفر لنا ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . قل : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ? بل كان الله بما تعملون خبيرا . بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وزين ذلك في قلوبكم ، وظننتم ظن السوء ، وكنتم قوما بورا . ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا . ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، وكان الله غفورا رحيما . سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها : ذرونا نتبعكم . يريدون أن يبدلوا كلام الله . قل : لن تتبعونا . كذلكم قال الله من قبل . فسيقولون : بل تحسدوننا . بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا . قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، تقاتلونهم أو يسلمون ، فان تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما . .
والقرآن لا يكتفي بحكاية أقوال المخلفين والرد عليها ؛ ولكنه يجعل من هذه المناسبة فرصة لعلاج أمراض النفوس ، وهواجس القلوب ، والتسلل إلى مواطن الضعف والانحراف لكشفها تمهيدا لعلاجها والطب لها . ثم لإقرار الحقائق الباقية والقيم الثابتة ، وقواعد الشعور والتصور والسلوك .
فالمخلفون من الأعراب - وكانوا من أعراب غفار ومزينة وأشجع وأسلم وغيرهم ممن حول المدينة - سيقولون اعتذارا عن تخلفهم : ( شغلتنا أموالنا وأهلونا ) . . وليس هذا بعذر . فللناس دائما أهل وأموال . ولو كان مثل هذا يجوز أن يشغلهم عن تكاليف العقيدة ، وعن الوفاء بحقها ما نهض أحد قط بها . . وسيقولون ( فاستغفر لنا ) . . وهم ليسوا صادقين في طلب الاستغفار كما ينبئ الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) . .
هنا يرد عليهم بتقرير حقيقة القدر الذي لا يدفعه تخلف ، ولا يغيره إقدام ؛ وبحقيقة القدرة التي تحيط بالناس وتتصرف في أقدارهم كما تشاء . وبحقيقة العلم الكامل الذي يصرف الله قدره على وفقه :
( قل : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ? بل كان الله بما تعملون خبيرا ) . .
وهو سؤال يوحي بالاستسلام لقدر الله ؛ والطاعة لأمره بلا توقف ولا تلكؤ . فالتوقف أو التلكؤ لن يدفع ضررا ، ولا يؤخر نفعا . وانتحال المعاذير لا يخفى على علم الله . ولا يؤثر في جزائه وفق علمه المحيط . وهو توجيه تربوي في وقته وفي جوه وفي مناسبته على طريقة القرآن .
يقول تعالى مخبرا رسوله {[26835]} - صلوات الله وسلامه عليه{[26836]} - بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم ( {[26837]}3 ) ، وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذروا بشغلهم بذلك ، وسألوا أن يستغفر لهم الرسول{[26838]} صلى الله عليه وسلم ، وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد ، بل على وجه التقية والمصانعة ؛ ولهذا قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا } أي : لا يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس ، وهو العليم بسرائركم وضمائركم ، وإن صانعتمونا وتابعتمونا{[26839]} ؛ ولهذا قال : { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
{ المخلفون من الأعراب } قال مجاهد وغيره : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل ، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا ، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله في هذه الآية ، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك ، قالوا : شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا ، وهذا منهم خبث وإبطال ، فلذلك قال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }{[10412]} قال الرماني : لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة ، ثم قال لنبيه عليه السلام { قل } لهم : { فمن يملك لكم من الله شيئاً } أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً .
وقرأ جمهور القراء : «إن أراد بكم ضَراً » بفتح الضاد . وقرأ حمزة والكسائي : «ضُراً » بالضم ، ورجحها أبو علي وهما لغتان . وفي مصحف ابن مسعود . «إن أراد بكم سوءاً » . ثم رد عليهم بقوله : { بل كان الله بما تعملون خبيراً } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.