ثم تجيء التجربة الثالثة . تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن :
( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي . قال : فخذ أربعة من الطير ، فصرهن إليك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .
إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية . وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم ، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل . . حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين !
إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ؛ وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان . . إنما هو أمر آخر ، له مذاق آخر . . إنه أمر الشوق الروحي ، إلى ملابسة السر الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي . ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل ، الذي يقول لربه ، ويقول له ربه . وليس وراء هذا إيمان ، ولا برهان للإيمان . ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها ، ويتنفس في جوها ، ويعيش معها . . وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان .
وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع :
( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي ) . .
لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ؛ واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف . ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله . ولكنه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأواه الحليم المنيب !
ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة :
( قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ؛ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ؛ ثم ادعهن يأتينك سعيا . واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .
لقد أمره أن يختار أربعة من الطير ، فيقربهن منه ويميلهن إليه ، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن . وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن ، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة . ثم يدعوهن . فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى ، وترتد إليهن الحياة ، ويعدن إليه ساعيات . . وقد كان طبعا . .
ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه . وهو السر الذي يقع في كل لحظة . ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه . إنه سر هبة الحياة . الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن ؛ والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد .
رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة ، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى ، وتعود إليه سعيا !
كيف ؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه . إنه قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته . إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه ، لأنه أكبر منهم ، وطبيعته غير طبيعتهم . ولا حاجة لهم به في خلافتهم .
إنه الشأن الخاص للخالق . الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين . فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب . وضاعت الجهود سدى ، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب !
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام ، أسبابا ، منها : أنه لما قال لنمروذ : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين ، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }
فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة وسعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال : رب أرني كيف تحيى الموتى ؟ قال : أو لم تؤمن . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي " وكذا رواه مسلم ، عن حرملة بن يحيى ، عن ابن وهب{[4390]} به - فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده ، بلا خلاف . وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة ، أحدها . . . {[4391]} .
وقوله : { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } اختلف المفسرون في هذه الأربعة : ما هي ؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها ، إذ لو كان في ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن ، فروي عن ابن عباس أنه قال : هي الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة . وعنه أيضًا : أنه أخذ وزًّا ، ورألا - وهو فرخ النعام - وديكا ، وطاووسًا . وقال مجاهد وعكرمة : كانت حمامة ، وديكا ، وطاووسًا ، وغرابًا .
وقوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أي : قطعهن . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو مالك ، وأبو الأسود الدؤلي ، ووهب بن منبه ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أوثقهن ، فلما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا ، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ، ثم قطعهن ونتف ريشهن ، ومزقهن{[4392]} وخلط بعضهن في ببعض ، ثم جزأهن أجزاءً ، وجعل على كل جبل منهن جزءًا ، قيل : أربعة أجبل{[4393]} . وقيل : سبعة . قال ابن عباس : وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله عز وجل ، أن يدعوهن ، فدعاهن كما أمره الله عز وجل ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش ، والدم إلى الدم ، واللحم إلى اللحم ، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض ، حتى قام كل طائر على حدته ، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها ، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم ، عليه السلام ، فإذا قدم له غير رأسه يأباه ، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته ؛ ولهذا قال : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز لا يغلبه شيء ، ولا يمتنع منه شيء ، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب في قوله : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها{[4394]} .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت زيد بن علي يحدث ، عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا . قال : ونحن شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله تعالى : { يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } الآية [ الزمر : 53 ] . فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول : إنها ، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }{[4395]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني ابن أبي سلمة عن محمد بن المنْكَدِر ، أنه قال : التقى عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص : أي آية في القرآن أرجى عندك ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله عز وجل : { يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا [ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه ]{[4396]} } الآية - فقال ابن عباس : لكن أنا أقول{[4397]} : قول الله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } فرضي من إبراهيم قوله : { بَلَى } قال : فهذا لما يعترض{[4398]} في النفوس{[4399]} ويوسوس به الشيطان .
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك ، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم ، عن إبراهيم بن عبد الله السعدي ، عن بشر بن عمر الزهراني ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، بإسناده ، مثله . ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[4400]} .
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا ، وقيل لما قال نمروذ أنا أحيي وأميت قال له : إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها ، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول نعم . وانتقل إلى تقرير آخر ، ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى . { قال أو لم تؤمن } بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة ، قال له ذلك وقد علم أنه أغرق الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه . { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } أي بلى آمنت ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي أو الاستدلال . { قال فخذ أربعة من الطير } قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاوس ، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بهما الغراب ، والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام . وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان والطير مصدر سمي به أو جمع كصحب . { فصرهن إليك } فأملهن واضممهن إليك لتتأملها وتعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء . وقرأ حمزة ويعقوب { فصرهن } بالكسر وهما لغتان قال :
وما صيد الأعناق فيهم حيلة *** ولكن أطراف الرماح تصورها
وفرع يصير الجيد وحف كأنه *** على الليث قنوان الكروم الدوالح
وقرئ { فصرهن } بضم الصاد وكسرها وهما لغتان ، مشددة الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وفصرهن من التصرية وهي الجمع أيضا . { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } أي ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك . قيل كانت أربعة . وقيل سبعة . وقرأ أبو بكر " جزؤا " و " جزؤ " بضم الزاي حيث وقع . { ثم ادعهن } قل لهن تعالين بإذن الله تعالى . { يأتينك سعيا } ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا . روي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها فيمسك رؤوسها ، ويخلط سائر أجزائها ويوزعها على الجبال ، ثم يناديهن . ففعل ذلك فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن . وفيه إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية ، فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها ، فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع . وكفى لك شاهدا على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال ، إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه ، وأراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام . { واعلم أن الله عزيز } لا يعجز عما يريده . { حكيم } ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره .
معطوف على قوله : { أو كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] ، فهو مثال ثالث لقضية قوله : { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الآية ومثال ثان لقضية { أو كالذي مر على قرية } فالتقدير : أو هو كإبراهيم إذ قال رب أرني إلخ . فإنّ إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروري ، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس .
وانتصب { كيف } هنا على الحال مجردةً عن الاستفهام ، كانتصابها في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] .
وقوله : { أولم تؤمن } الواو فيه واو الحال ، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة ، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله : { أرني } والتقدير : أأرِيك في حال أنّك لم تؤمن ، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك ، فقوله : { بلى ولكن ليطمئن قلبي } كلام صدر عن اختباره يقينَه وإلفائه سالماً من الشك .
وقوله : { ليطمئن قلبي } معناه لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشُبه عن العقل ، وذلك أنّ حقيقة يَطمئن يسكن ، ومصدره الاطمئنان ، واسم المصدر الطُّمَأنِينَة ، فهو حقيقة في سكون الأجسام ، وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفاء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردّد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة ، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساوياً للحقيقة ، يقال اطمأنّ بَالَهُ واطمأنّ قلبه .
والأظهر أنّ اطمأن وزنه افعلَلَ وأنّه لا قلب فيه ، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة ، وهذا قول أبي عمرو وهو البيِّن إذ لا داعي إلى القلب ، فإنّ وقوع الهمزة لا ما أكثر وأخف من وقوعها عيناً ، وذهب سيبويه إلى أنّ اطْأمَنّ مقلوب وأصله اطْمَأنّ وقد سمع طَمْأنْتُه وطَأْمَنْتُه وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة ، والذي أوجب الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طَمَن .
والقلبُ مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنّما ذلك للفكر ، وأراد بالاطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دلّه الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين .
وقوله : { فخذ أربعة من الطير } اعلم أنّ الطير يطلق على الواحد مرادفاً لطائر ؛ فإنّه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة ، ولا شك في هذا الإطلاق ، وهو قول أبي عبيدة والأزهري وقُطرب ولا وجه للترّدد فيه ، ويطلق على وجمعه أيضاً وهو اسم جمع طائر كصحْب وصاحب ، وذلك أنّ أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع .
وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أنّ الأربعة مختلفة الأنواع ، والظاهر أنّ حكمة التعدّد والاختلاف زيادة في تحقّق أنّ الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض ، فلذلك عدّدت الأنواع ، ولعلّ جعلها أربعة ليكون وضعُها على الجهات الأربع : المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلاّ يظنّ لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء ، ويجوز أنّ المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر ، أي خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهنّ ، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران ، فجعل ذلك آية على أنَّهنّ أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة ، لئلا يظن أنّهن لم يمتن تماماً .
وذكر كل جبل يدل على أنّه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأنّ وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء ؛ فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسِرة التناول .
والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية ، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع ، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيِّء ، وبعضها تعتصم به الناس من العدوّ كما قال السَّمَوْأل :
لنا جبل يحتلّه من نجيره *** منيع يردّ الطَّرفَ وهو كليل
ومعنى { صرهنّ } أدنِهن أو أيلهن يقال صاره يصُوره ويصيره بمعنًى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب ، فعن عكرمة أنّه نبطي ، وعن قتادة هو حبشي ، وعن وهب هو رومي ، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنّها لم ينتقل جزء منها عن موضعه .
وقوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } عطف على محذوف دلّ عليه قوله { جزءاً } لأن تجزئتهن إنّما تقع بعد الذبح . فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ .
وقرأ الجمهور { فصُرهن } بضم الصاد وسكون الراء من صاره يُصوره ، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب { فصِرهن } بكسر الصاد من صار يصير لغة في هذا الفعل .
وقرأ الجمهور { جُزْءاً } بسكون الزاي وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي ، وهما لغتان .