والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :
( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .
مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !
يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه {[26994]} ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار ، رحيما برًا بالأخيار ، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر " {[26995]} ، وقال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه{[26996]} كلا الحديثين في الصحيح .
وقوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة {[26997]} الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، عز وجل ، والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة{[26998]} المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه ، تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني : السمت الحسن .
وقال مجاهد وغير واحد : يعني : الخشوع والتواضع .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي ، حدثنا حسين الجَعْفي ، عن زائدة{[26999]} ، عن منصور عن مجاهد : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال : الخشوع قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .
وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم .
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله {[27000]} صلى الله عليه وسلم : " من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " والصحيح أنه موقوف{[27001]} .
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه ، وفَلتَات لسانه .
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن سلمة بن كُهَيْل {[27002]} ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " ، العرزمي متروك {[27003]} .
وقال {[27004]} الإمام أحمد : حدثنا حسن بن {[27005]} موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما{[27006]} كان " {[27007]} .
وقال {[27008]} الإمام أحمد [ أيضا ] {[27009]} : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان : أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به{[27010]} .
فالصحابة [ رضي الله عنهم ]{[27011]} خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم .
وقال مالك ، رحمه الله : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون : " والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا " . وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة {[27012]} ؛ ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } {[27013]} أي : فراخه ، { فَآزَرَهُ } أي : شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي : شب وطال ، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة {[27014]} ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم .
ثم قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من " هذه لبيان الجنس ، { مَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم {[27015]} ، وقد فعل .
قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " {[27016]} .
{ محمد رسول الله } جملة مبينة للمشهود به ، ويجوز أن يكون { رسول الله } صفة و { محمد } خبر محذوف أو مبتدأ : { والذين معه } معطوف عليه وخبرهما { أشداء على الكفار رحماء بينهم } و{ أشداء } جمع شديد و { رحماء } جمع رحيم ، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } . { تراهم ركعا سجدا } لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم . { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } الثواب والرضا . { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود ، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة و{ من أثر السجود } بيانها أو حال من المستكن في الجار . { ذلك } إشارة إلى الوصف المذكور . أو إشارة مبهمة يفسرها { كزرع } . { مثلهم في التوراة } صفتهم العجيبة الشأن المذكور فيها . { ومثلهم في الإنجيل } عطف عليه أي ذلك مثلهم في الكتابين وقوله : { كزرع } تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و{ كزرع } خبره . { أخرج شطأه } فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان { شطأه } بفتحات وهو لغة فيه ، وقرئ " شطاه " بتخفيف الهمزة و " شطاءه " بالمد و " شطه " بنقل حركة الهمزة وحذفها و " شطوه " بقلبها واوا . { فآزره } فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان " فأزره " كأجره في آجره . { فاستغلظ } فصار من الدقة إلى الغلظ . { فاستوى على سوقه } فاستقام على قصبه جمع ساق ، وعن ابن كثير " سؤقه " بالهمزة . { يعجب الزراع } بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره ، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس . { ليغيظ بهم الكفار } علة لتشبيههم بالزرع في زكاته واستحكامه أو لقوله : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان .
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود } .
لما بيّن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه .
و { محمد } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله : { رسوله } [ الفتح : 28 ] في الآية قبلها . وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره . قال التفتازاني في « المطول » « ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلاً : فتى من شأنه كذا وكذا ، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا » . ومن أمثلة « المفتاح » لذاك قوله : ( فراجعهما ) أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل : قوله
سأشكر عمراً إن تراخَتْ منيتــي *** أيــاديَ لم تُمنن وإنْ هيَ جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت{[388]}
وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمداً رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] إلى قوله : { ليظهره على الدين كله } [ الفتح : 28 ] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان : مَنْ هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار ؟ فيقال له : محمد رسول الله ، أي هو محمد رسول الله . وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم فتعتبر الجملةُ المحذوفُ مبتدؤها مستأنفةً استئنافاً بيانياً . وفيه وجوه أخر لا تخفى ، والأحسن منها هذا .
وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح « هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . وقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت » .
وقوله : { والذين معه } يجوز أن يكون مبتدأ و { أشداء } خبراً عنه وما بعده إخبار . والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى { معه } : المصاحَبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى : { وقال الله إني معكم } . والمراد : أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية .
وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عُرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب نادِ يا أصل السَّمُرة . ويجوز أن يكون { والذين معه } عطفاً على { رسولَه } من قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ التوبة : 33 ] . والتقدير : وأرسل الذين معه ، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [ يس : 14 ] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين ، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد .
فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى : { بعثنا عليكم عبادا لَنَا } وعلى هذا يكون { أرسلنا } في هذه الآية مستعملاً في حقيقته ومجازه .
و { أشداء } : جمع شديد ، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها ، قال تعالى في وصف النار { عليها ملائكة غلاظٌ شداد } [ التحريم : 6 ] .
والشدة على الكفار : هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم ، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيماناً من أجْل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذٍ أشد أشدّائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر . وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين : أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه . والله ورسوله أعلم .
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال ، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة . والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] .
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم . وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّةِ والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين } في سورة العقود ( 54 ) .
وفي تعليق رحماء } مع ظرف ( بين ) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم « تجد المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى »
والخطاب في { تراهم } لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم ، أي يراهم الرائي .
وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك ، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعاً سجداً . وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس ، وهي الصلوات مفروضُها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه . وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه .
والسيما : العلامة ، وتقدم عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في البقرة ( 273 ) وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود .
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها { من أثر السجود } على ثلاثة أنحاء الأول : أنها أثر محسوس للسجود ، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود ، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة . فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وَكَف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان . وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل .
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء .
وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب .
وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك . فقال الأعمش : مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان . وقال ابن عباس : هو حسن السمت . وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع . وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر . وإلى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضاً والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضاً وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب : أنها سِيما تكون لهم يوم القيامة ، وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله في قوله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] : النور يوم القيامة ، قيل وسنده حسن وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكر أعلاها .
وضمائر الغيبة في قوله : { تراهم } و { يبتغون } و { سيماهم في وجوههم } عائدة إلى { الذين معه } على الوجه الأول ، وإلى كل من { محمد رسول اللَّه والذين معه } على الوجه الثاني .
{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } .
الإشارة ب { ذلك } إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و { مثلهم } خبره .
والمَثل يطلق على الحالة العجيبة ، ويطلق على النظير ، أي المُشابه فإن كان هنا محمولاً على الحالة العجيبة فالمعنى : أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في « التوراة » . وقوله : { في التوراة } متعلق ب { مثلهم } أو حال منه . فيحتمل أن في « التوراة » وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات ، فبيّن الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في « التوراة » ، أي أن « التوراة » قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذي وقفنا عليه في « التوراة » مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من « سفر التثنية » من قول موسى عليه السلام : « جاء الربُ من سينا وأشرقَ لهم من سَعير وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القُدُس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحبّ الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك » فإن جبل فاران هو حِيال الحجاز . وقوله : « فأحب الشعب جميع قديسيه » يشير إليه قوله : { رحماءُ بينهم } [ الفتح : 29 ] ، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح وقوله : قديسيه يفيد معنى { تراهم رُكَّعا سُجَّدا } [ الفتح : 29 ] ومعنى { سِيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] . وقوله في « التوراة » « جالسون عند قدمك » يفيد معنى قوله تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضوانا } [ الحشر : 8 ] . ويكون قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوصف .
{ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع } .
ابتداء كلام مبتدأ . ويكون الوقف على قوله : { في التوراة } والتشبيه في قوله : { كزرع } خبره ، وهو المثَل . وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيراً إلى نحو قوله في « إنجيل متى » الإصحاح 13 فقرة 3 « هو ذا الزَارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السّلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته » إلى أن قال « وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين » . قال فقرة ، ثم قال : « وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم ، وهو الذي يأتي بثَمر فيصنع بعضٌ مائةً وبعضٌ ستين وآخر ثلاثين » . وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة .
وفي قوله : { أخرج شطأه } استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئاً من مكان .
والشطْءُ بهمزة في آخره وسكون الطاء : فراخ الزرع وفروع الحبّة .
ويقال : أشطأ الزرع ، إذا أخرج فروعا . وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز وقرأه ابن كثير { شَطأه } بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا .
و { آزره } قوّاه ، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتّزر به ويعينه شدهُ على العمل والحَمل كذا قيل . والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقاً اسمه من : آزر ، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر لا يصار إلى ادعائه إلا إذا تعين . وصيغة المفاعلة في { آزره } مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم : عافاك الله ، وقوله تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ] .
والضمير المرفوع في { آزره } للشطء ، والضمير المنصوب للزرع ، أي قوًى الشطء أصله .
وقرأ الجمهور { فآزره } . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر { فأزَّره } بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد .
ومعنى { استغلظ } غلظ غلظاً شديداً في نوعه ، فالسين والتاء للمبالغة مثل : استجاب . والضميران المرفوعان في { استغلظ } و { استوى } عائدان إلى الزرع .
والسُوق : جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زِنة فَعَل بفتحتين . وقراءة الجميع { على سوقه } بالواو بعد الضمة . وقال ابن عطية : قرأ ابن كثير { سُؤقه } بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهْمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر{[389]} :
وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسّرون ولم يذكرها في « حرز الأماني » وذكرها النوري في كتاب « غيث النفع » وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل .
وساق الزرع والشجرة : الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان . ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً وتقويه يوماً فيوماً حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه . وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل ، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل : أبي بكر وخديجة وعلي وبلال وعمّار ، والشطْء : من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . وقوله : { يعجب الزراع } تحسين للمشبّه به ليفيد تحسين المشبه .
تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار .
قال القرطبي : قال أبو عروة الزبيري{[390]} : كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية { محمد رسول الله } إلى أن بلغ قوله : { ليغيظ بهم الكفار } فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
وقلت : رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه .
{ وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عظيما } .
أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين .
وقوله : { منهم } يجوز أن تكون ( من ) للبيان كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وهو استعمال كثير ، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر ( من ) تحذيراً وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين .