فأخذها السامري فصاغ منها عجلا . والسامري رجل من " سامراء " كان يرافقهم أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب . وجعل له منافذ إذا دارت فيها الريح أخرجت صوتا كصوت الخوار ، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد - ولفظ الجسد يطلق على الجسم الذي لا حياة فيه - فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل ، وعكفوا على عجل الذهب ؛ وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا : ( هذا إلهكم وإله موسى )راح يبحث عنه على الجبل ، هو هنا معنا . وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه !
وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه ، وبتوجيهه وإرشاده . اتهامهم له بأنه غير موصول بربه ، حتى ليضل الطريق إليه ، فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه !
{ قَالُوا } أي : بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم{[19466]} موسى وقرعهم : { مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } أي : عن قدرتنا واختيارنا .
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم ، حين خرجوا من مصر ، { فَقَذَفْنَاهَا } أي : ألقيناها عنا . وقد تقدم في حديث " الفتون " أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار .
وفي رواية السُّدِّيّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة{[19467]} ويجعل حجرًا واحدًا . حتى إذا رجع موسى يرى{[19468]} فيه ما يشاء . ثم جاء [ بعد ]{[19469]} ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته ، فدعا له هارون - وهو لا يعلم ما يريد - فأجيب له{[19470]} فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا . فكان عجلا له خُوار ، أي : صوت ، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا ؛ ولهذا قالوا : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ{[19471]} حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن سماك ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون : اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون ، فقال{[19472]} السامري : اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار ، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم .
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : [ أعمل ]{[19473]} ما ينفع ولا يضر .
فقالوا - أي : الضُّلال منهم ، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه - : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي : نسيه هاهنا ، وذهب يتطلبه . كذا تقدم في حديث " الفتون " عن ابن عباس . وبه قال مجاهد .
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس : { فَنَسِيَ } أي : نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فقالوا : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله ، يقول الله : { فَنَسِيَ } أي : ترك ما كان عليه من الإسلام يعني : السامري .
وقوله : " فَأخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاٍ جَسَدا لَهُ خُوَار " ٌ يقول : فأخرج لهم السامريّ مما قذفوه ومما ألقاه عجلاً جسدا له خوار ، ويعني بالخوار : الصوت ، وهو صوت البقر .
ثم اختلف أهل العلم في كيفية إخراج السامريّ العجل ، فقال بعضهم : صاغه صياغة ، ثم ألقى من تراب حافر فرس جبرئيل في فمه فخار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " فَكَذلكَ ألْقَى السّامرِيّ " قال : كان الله وقّت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر فلما مضت الثلاثون قال عدوّ الله السامري : إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحليّ الذي كان معكم ، فهلموا وكانت حليا تعيروها من آل فرعون ، فساروا وهي معهم ، فقذفوها إليه ، فصوّرها صورة بقرة ، وكان قد صرّ في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرئيل ، فقذفها مع الحليّ والصورة " فَأَخْرَجَ لَهُمْ عجْلاً جَسَدا لَهُ خُوَارٌ " فجعل يخور خوار البقر ، فقال : " هَذَا إلهُكُمْ وإلَهُ مُوسَى " .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما استبطأ موسى قومه قال لهم السامريّ : إنما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحليّ ، وكانوا استعاروا حليا من آل فرعون فجمعوه فأعطوه السامريّ فصاغ منه عجلاً ، ثم أخذ القبضة التي قبض من أثر الفرس ، فرس الملك ، فنبذها في جوفه ، فإذا هو عجل جسد له خوار ، قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ، ولكن موسى نسي ربه عندكم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخذ السامريّ من تربة الحافر ، حافر فرس جبرئيل فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة ، فأتمها الله بعشر ، قال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحلّ لكم ، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، فاحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها ، وإلاّ كان شيئا لم تأكلوه . فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة ، فجاء السامريّ بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحليّ عجلاً جسدا له خوار ، وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى ، فعدوا الليلة يوما ، واليوم يوما فلما كان لعشرين خرج لهم العجل فلما رأوه قال لهم السامريّ : " هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ " فعكفوا عليه يعبدونه ، وكان يخور ويمشي فَكذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ ذلك حين قال لهم هارون : احفروا لهذا الحليّ حفرة واطرحوه فيها ، فطرحوه ، فقذف السامريّ تربته . وقوله : " فقَالَ هَذَا إلهُكُمْ وَإلَه مُوسَى " يقول : فقال قوم موسى الذين عبدوا العجل : هذا معبودكم ومعبود موسى . وقوله فَنَسِيَ يقول : فضلّ وترك .
ثم اختلف أهل التأويل في قوله فَنَسِيَ من قائله ومن الذي وصف به وما معناه ، فقال بعضهم : هذا من الله خبر عن السامريّ ، والسامريّ هو الموصوف به ، وقالوا : معناه : أنه ترك الدين الذي بعث الله به موسى وهو الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جُبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقول الله : فَنَسِيَ : أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني السامري .
وقال آخرون : بل هذا خبر من الله عن السامري ، أنه قال لبني إسرائيل ، وأنه وصف موسى بأنه ذهب يطلب ربه ، فأضلّ موضعه ، وهو هذا العجل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس فَقَذَفْناها يعني زينة القوم حين أمرنا السامريّ لما قبض قبضة من أثر جبرائيل عليه السلام ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلاً جسدا له خوار فَقالُوا هَذَا إلهُكُمْ وإلَهُ مُوسَى الذي انطلق يطلبه فَنَسِيَ يعني : نسي موسى ، ضلّ عنه فلم يهتد له .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَنَسيَ يقول : طلب هذا موسى فخالفه الطريق .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة فَنَسِيَ يقول : قال السامريّ : موسى نسي ربه عندكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَنَسِيَ موسى ، قال : هم يقولونه : أخطأ الربّ العجل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فَنَسِيَ قال : نسي موسى ، أخطأ الربّ العجل ، قوم موسى يقولونه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَنَسِيَ يقول : ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ " قال : يقول : فنسي حيث وعده ربه ههنا ، ولكنه نسي .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ " يقول : نسي موسى ربه فأخطأه ، وهذا العجل إله موسى .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء ، وهو أن ذلك خبر من الله عزّ ذكره عن السامريّ أنه وصف موسى بأنه نسي ربه ، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري ، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، وأنه عقيب ذكر موسى ، وهو أن يكون خبرا من السامريّ عنه بذلك أشبه من غيره .
ضميرا الغيبة في قوله فَأَخْرَجَ لَهُمْ } وقوله : { فَقَالُوا } عائدان إلى غير المتكلمين .
علّق المتكلمون الإخرَاجَ والقولَ بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعَوا دهماء القوم ، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى . وعلى هذا درج جمهور المفسرين ، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى ، ويكون ضمير { فأخرج لهم } التفاتاً قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم ، أي أخرجَه لمن رغِبوا في ذلك .
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله ، وهو اختيار أبي مسلم ، فيكون اعتراضاً وإخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمّة . وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا تَرِد للاستئناف على التحقيق ، فتكون الفاء للتفريع تفريعَ أخبار على أخبار .
والمعنى : فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليَذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلاً جسداً . فإنّ فعل ( ألقى ) يحكي حالة مشبهة بحالة قَذفهم مصوغَ القبط . والقذف والإلقاء مترادفان ، شبه أحدهما بالآخر .
والجسد : الجسم ذو الأعضاء سواء كان حياً أم لا ؛ لقوله تعالى : { وألْقينا على كرسيه جسداً } [ ص : 34 ] . قيل : هو شِق طفل ولدتْه إحدى نسائه كما ورد في الحديث . قال الزجاج : الجسد هو الذي لا يَعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة ، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه ، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب . وفي سفر الخروج أنّه كان من ذهب .
والإخْراج : إظهار ما كان محجوباً . والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه .
والخُوار : صوت البقر . وكان الذي صنع لهم العجل عارفاً بصناعة الحِيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه .
وصنع لهم السامريّ صنماً على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل « ايبيس » ، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرَفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خواراً ، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم { هذا إلهكم وإله موسى ، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة ، فتوهموا أنّه أفضل من العجل ( إيبيس ) . وإذ قد كانوا يثبتون إلهاً محجوباً عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته ، فقالوا لموسى : { أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] ، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة . وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التّوراة غير ملائمة للنظر السليم .
وتفريع { فَنَسِى } يحتمل أن يكون تفريعاً على { فقال هذا إلهكم تفريعَ علة على معلول ، فالضمير عائد إلى السامريّ ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي ؛ أو تفريعَ معلول على علّة ، أي قال ذلك ، فكان قوله سبباً في نسيانه ما كان عليه من هَدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعدُ .
والنسيان : مستعمل في الإضاعة ، كقوله تعالى : { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها } [ طه : 126 ] وقوله : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 5 ] .
وعلى هذا يكون قوله { فَنَسِيَ } من الحكاية لا من المحكي ، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله { أفلا يرون } [ طه : 89 ] ويكون اعتراضاً . وجعله جمع من المفسرين عائداً إلى موسى ، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه ، أي غفل عنه ، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم ، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأخرج لهم عجلا جسدا} يعني: بالجسد أنه لا روح فيه {له خوار} يعني: له صوت، {فقالوا} قال السامري وحده: {هذا إلهكم وإله موسى} معشر بني إسرائيل، وذلك أن بني إسرائيل لما عبروا البحر مروا على العمالقة وهم عكوف على أصنام لهم، قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فاغتنمها السامري، فلما اتخذه قال: هذا إلهكم وإله موسى معشر بني إسرائيل، {فنسي}، يقول: فترك موسى ربه وهو هذا، وقد ذهب موسى يزعم خطاب ربه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَأخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاٍ جَسَدا لَهُ خُوَار" يقول: فأخرج لهم السامريّ مما قذفوه ومما ألقاه عجلاً جسدا له خوار، ويعني بالخوار: الصوت، وهو صوت البقر...
وقوله: "فقَالوا هَذَا إلهُكُمْ وَإلَه مُوسَى "يقول: فقال قوم موسى الذين عبدوا العجل: هذا معبودكم ومعبود موسى.
وقوله "فَنَسِيَ" يقول: فضلّ وترك.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله: "فَنَسِيَ" من قائله؟ومن الذي وصف به؟ وما معناه؟؛
فقال بعضهم: هذا من الله خبر عن السامريّ، والسامريّ هو الموصوف به، وقالوا: معناه: أنه ترك الدين الذي بعث الله به موسى وهو الإسلام...
وقال آخرون: بل هذا خبر من الله عن السامري، أنه قال لبني إسرائيل، وأنه وصف موسى بأنه ذهب يطلب ربه، فأضلّ موضعه، وهو هذا العجل... والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء، وهو أن ذلك خبر من الله عزّ ذكره عن السامريّ أنه وصف موسى بأنه نسي ربه، وأنه [لعل الصواب: وأن] ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه، وأنه عقيب ذكر موسى، وهو أن يكون خبرا من السامريّ عنه بذلك أشبه من غيره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فلم خلق الله العجل من الحليّ حتى صار فتنة لبني إسرائيل وضلالاً؟ قلت: ليس بأوّل محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. ومن عجب من خلق العجل فليكن من خلق إبليس أعجب. والمراد بقوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} هو خلق العجل للامتحان، أي: امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال، وأوقعهم فيه حين قال لهم: {هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِي} أي: فنسي موسى أن يطلبه ههنا، وذهب يطلبه عند الطور. أو فنسي السامري: أي ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان خروج التمثال عقب إلقاءه، جعل كأنه المتسبب في ذلك، فقيل مع العدول عن أسلوب التكلم استهجاناً لنسبة أمر العجل إلى المتكلم: {فأخرج لهم} أي لمن شربه وعبده، وجعل الضمير للغيبة يؤيد قول من جعل هذا كلام من لم يعبد العجل، والمعنى عند من جعله من كلام العابدين أنهم دلوا بذلك على البراءة منه والاستقذار له.
ولما كان شديد الشبه للعجول، قيل: {عجلاً} وقدم قوله: {جسداً} المعرف أن عجليته صورة لا معنى -على قوله: {له خوار} لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل {فقالوا} أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه: {هذا} مشيرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو مثل في الغباوة {إلهكم وإله موسى فنسي} أي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي- بعدوله عن هذا المكان -موضعه، فذهب يطلبه في مكان غيره، أو نسي أن يذكره لكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل، وعكفوا على عجل الذهب؛ وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا: (هذا إلهكم وإله موسى) راح يبحث عنه على الجبل، هو هنا معنا. وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه! وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه، وبتوجيهه وإرشاده، اتهامهم له بأنه غير موصول بربه، حتى ليضل الطريق إليه، فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضميرا الغيبة في قوله {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} وقوله: {فَقَالُوا} عائدان إلى غير المتكلمين.
علّق المتكلمون الإخرَاجَ والقولَ بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعَوا دهماء القوم، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى. وعلى هذا درج جمهور المفسرين، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى، ويكون ضمير {فأخرج لهم} التفاتاً قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم، أي أخرجَه لمن رغِبوا في ذلك.
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله، وهو اختيار أبي مسلم، فيكون اعتراضاً وإخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمّة. وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا تَرِد للاستئناف على التحقيق، فتكون الفاء للتفريع تفريعَ أخبار على أخبار.
والمعنى: فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليَذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلاً جسداً. فإنّ فعل (ألقى) يحكي حالة مشبهة بحالة قَذفهم مصوغَ القبط. والقذف والإلقاء مترادفان، شبه أحدهما بالآخر.
والجسد: الجسم ذو الأعضاء سواء كان حياً أم لا... قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يَعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب...
والإخْراج: إظهار ما كان محجوباً. والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه.
والخُوار: صوت البقر. وكان الذي صنع لهم العجل عارفاً بصناعة الحِيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.
وصنع لهم السامريّ صنماً على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل « إيبيس»، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرَفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خواراً، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم {هذا إلهكم وإله موسى، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة، فتوهموا أنّه أفضل من العجل (إيبيس). وإذ قد كانوا يثبتون إلهاً محجوباً عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته، فقالوا لموسى: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة...
وتفريع {فَنَسِي} يحتمل أن يكون تفريعاً على {فقال هذا إلهكم تفريعَ علة على معلول، فالضمير عائد إلى السامريّ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي؛ أو تفريعَ معلول على علّة، أي قال ذلك، فكان قوله سبباً في نسيانه ما كان عليه من هَدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعدُ.
والنسيان: مستعمل في الإضاعة، كقوله تعالى: {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها} [طه: 126] وقوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5].
وعلى هذا يكون قوله {فَنَسِيَ} من الحكاية لا من المحكي، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله {أفلا يرون} [طه: 89] ويكون اعتراضاً. وجعله جمع من المفسرين عائداً إلى موسى، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه، أي غفل عنه، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.
والنسيان: يكون مستعملاً مجازاً في الغفلة.
أي: أخرج لهم من هذا الذهب المنصهر {عجلا جسدا}... ففي قوله تعالى: {عجلا جسدا له خوار} أي: لا حركة فيه، فهو مجرد تمثال. صنع على هيئة معينة، بحيث يستقبل الريح، فيحدث فيه صفيرا يشبه الخوار: أي صوت البقر. لكن، لماذا فكر السامري هذا التفكير، واختار مسألة العجل هذه؟ قالوا: لأن السامري استغل تشوق بني إسرائيل. وميلهم إلى الصنمية والوثنية، وأنها متأصلة فيهم. ألم يقولوا لنبيهم عليه السلام وما زالت أقدامهم مبتلة من البحر بعد أن أنجاهم الله من فرعون، وكان جديرا بهم شكر الله، فإذا بهم يقولون وقد أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم: {يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. (138)} (الأعراف). فجاءهم بهذا العجل، وقد ترقى به من الصنمية، فجعله جسدا، وجعل له خوارا وصوتا مسموعا. ثم يقول تعالى: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي: نسي السامري خميرة الإيمان في نفسه، ونسى أن هذا العمل خروج عن الإيمان إلى الكفر، وليته يكفر في ذاته، إنما هو يكفر ويكفر الناس. لا بد له أنه نسى، فلو كان على ذكر من الإيمان ومن عاقبة عمله وخيبة ما أقدم عليه ما فعل.