ثم قال : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } قال ابن عباس ، وغيره : يعني المنافقين ، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر ؛ ولهذا قال : { لِلْمُصَلِّينَ } أي : الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا ، فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق ، وأبو الضحى .
وقال عطاء بن دينار : والحمد لله الذي قال : { عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } ولم يقل : في صلاتهم ساهون .
وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا ، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به ، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل هذا كله ، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية . ومن اتصف بجميع ذلك ، فقد تم نصيبه منها ، وكمل له النفاق العملي . كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يَرْقُب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " {[30564]} فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى ، كما ثبت به النص إلى آخر وقتها ، وهو وقت كراهة ، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب ، لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا ؛ ولهذا قال : " لا يذكر الله فيها إلا قليلا " . ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس ، لا ابتغاء وجه الله ، فهو إذًا لم يصل بالكلية . قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 142 ] . وقال هاهنا : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ }
وقوله : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ الّذِين هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } يقول تعالى ذكره : فالوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم للمنافقين الذين يصلون ، لا يريدون الله عزّ وجلّ بصلاتهم ، وهم في صلاتهم ساهون إذا صلوها .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } فقال بعضهم : عُنِي بذلك أنهم يؤخّرونها عن وقتها ، فلا يصلونها إلا بعد خروج وقتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سكن بن نافع الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن خلف بن حَوْشَبِ ، عن طلحة بن مُصَرّف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي ، أرأيت قول الله عزّ وجلّ : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : أيه تركها ؟ قال : لا ، ولكن تأخيرها عن وقتها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن هشام الدّسْتَوائي ، قال : حدثنا عاصم بن بهدلة . عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لسعد : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : أهو ما يحدّث به أحدنا نفسه في صلاته ؟ قال : لا ، ولكن السهو أن يؤخّرها عن وقتها .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن مصعب بن سعد { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : السهو : الترك عن الوقت .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عمران بن تمام البُنَانيّ ، قال : حدثنا أبو جمرة الضّبَعِيّ نصر بن عمران ، عن ابن عباس ، في قوله : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الذين يؤخّرونها عن وقتها .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : { فويل للمصلين الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الذين يُؤّخرون الصلاة المكتوبة ، حتى تخرج من الوقت أو عن وقتها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الترك لوقتها .
حدثني أبو السائب ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأَعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، في قوله : { الّذِينَ هُم عَنْ صْلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : تضييع مِيقاتها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : ترك المكتوبة لوقتها .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : أخبرني ابن زَحْر ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } الذين يضيعونها عن وقتها .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أنهم يتركونها فلا يصلونها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } فهم المنافقون كانوا يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضا لهم ، وهو الماعون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ ، ويصلون في العلانية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : الترك لها .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أنهم يتهاونون بها ، ويتغافلون عنها ويَلْهُونَ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : لاهون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : غافلون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : ساهٍ عنها ، لا يبالي صلّى أم لم يصلّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ } ساهُونَ يصلون ، وليست الصلاة من شأنهم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : يتهاونون .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب بقوله : ساهُونَ : لاهون يتغافلون عنها ، وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها ، تضييعها أحيانا ، وتضييع وقتها أخرى . وإذا كان ذلك كذلك صحّ بذلك قول من قال : عُنِي بذلك ترك وقتها ، وقول من قال : عُنِي به تركها ، لما ذكرت من أن في السهو عنها المعاني التي ذكرت .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبران يؤيدان صحة ما قلنا في ذلك :
أحدهما ما حدثني به زكريا بن أبان المصريّ ، قال : حدثنا عمرو بن طارق ، قال : حدثنا عكرِمة بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } قال : «هم الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها » .
والآخر منهما ما حدثني به أبو كُرَيب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن شبيان النحويّ ، عن جابر الجُعْفِيّ ، قال : ثني رجل ، عن أبي بَرْزة الأسلميّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما نزلت هذه الاَية : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } : «الله أكبرُ هذه خيرٌ لكم من أن لو أُعطيَ كلّ رجل منكم مثلَ جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرجُ خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربه » .
حدثني أبو عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : { الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ } .
وكلا المعنيين اللذين ذكرت في الخبرين اللذين روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتمل عن معنى السهو عن الصلاة .
ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطرين في الإسلام بمكة الذين لم يحققوا فيه ، وفتنوا فافتتنوا ، وكانوا على هذه الخلق من الغشم وغلظ العشرة والفظاظة على المسلمين ، وربما كان بعضهم يصلي أحياناً مع المسلمين مدافعة وحيرة ، فقال تعالى فيهم : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } . قال ابن جريج : كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزوراً فجاءه يتيم ، فقرعه بعصا فنزلت السورة فيه . وقال سعد بن أبي وقاص : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن { الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، فقال : هم الذين يؤخرونها عن وقتها{[11998]} ، يريد والله أعلم تأخير ترك وإهمال ، وإلى هذا نحا مجاهد ، وقال قتادة : { ساهون } : هو الترك لها ، وهم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل . وقال عطاء بن يسار : الحمد لله الذي قال : { عن صلاتهم } ، ولم يقل في صلاتهم . وفي قراءة ابن مسعود : «لاهون » بدل { ساهون } .
وقوله : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } صفة { للمصلين } مقيِّدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق .
فيكون قوله { الذين هم عن صلاتهم ساهون } ترشيحاً للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم .
وعدي { ساهون } بحرف { عن } لإفادة أنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة .
وقوله : { الذين عن صلاتهم ساهون } يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلاّ رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة .
ويجوز أن يكون معناه : الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق { ساهون } تهكماً كما قال تعالى : { يراءون الناس ولا يذكرون اللَّه إلا قليلاً في المنافقين } في سورة النساء ( 142 ) .
و ( يراءون ) يقصدون أن يَرى الناسُ أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسنَ ما هم بموصوفين بها ، ولذلك كَثر أن تعطف السُّمعة على الرياء فيقال : رياء وسُمعة .
وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإِراءة .
و{ الماعون } : يطلق على الإِعانة بالمال ، فالمعنى : يمنعون فضلهم أو يمنعون الصدقة على الفقراء . فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإِسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة .
وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب : الماعون : المال بلسان قريش .
وروى أشهب عن مالك : الماعون : الزكاة ، ويشهد له قول الراعي :
قوم على الإِسلام لمّا يمنعوا *** ماعونهم ويضيِّعوا التهليلا
لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة .
ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشدّ وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطائه . وعن عائشة : الماعون الماء والنار والملح . وهذا ذم لهم بمنتهى البخل . وهو الشح بما لا يزرئهم .