ويلخص ما يوحى في ثلاثة أمور مترابطة : الاعتقاد بالوحدانية ، والتوجه بالعبادة ، والإيمان بالساعة ؛ وهي أسس رسالة الله الواحدة :
( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري . إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى . فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ) . .
فأما الألوهية الواحدة فهي قوام العقيدة . والله في ندائه لموسى - عليه السلام - يؤكدها بكل المؤكدات : بالإثبات المؤكد . ( إنني أنا الله )وبالقصر المستفاد من النفي والاستثناء : لا إله إلا أنا الأولى لإثبات الألوهية لله ، والثانية لنفيها عن سواه . . وعلى الألوهية تترتب العبادة ؛ والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة ؛ ولكنه يخص بالذكر منها الصلاة : ( وأقم الصلاة لذكري )لأن الصلاة أكمل صورة من صور العبادة ، وأكمل وسيلة من وسائل الذكر ، لأنها تتمحض لهذه الغاية ، وتتجرد من كل الملابسات الأخرى ؛ وتتهيأ فيها النفس لهذا الغرض وحده ، وتتجمع للاتصال بالله .
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له .
وقوله : { فَاعْبُدْنِي } أي : وحدّني وَقُم بعبادتي من غير شريك ، { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } قيل : معناه : صَلِّ لتذكرني . وقيل : معناه : وأقم الصلاة عند ذكرك لي .
ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا المثنى بن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رَقَد أحدكم عن الصلاة ، أو غفل عنها ، فليصلها إذا ذكرها ؛ فإن الله تعالى قال : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي }{[19230]} .
وفي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نام عن صلاة أو نسيها ، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك " {[19231]} .
" إنني أناالله " يقول تعالى ذكره : إنني أنا المعبود الذي لا تصلح العبادة إلاّ له ، لا إلَهَ إلاّ أنا فلا تعبد غيري ، فإنه لا معبود تجوز أو تصلح له العبادة سواي فاعْبُدْنِي يقول : فأخلص العبادة لي دون كلّ ما عبد من دونه " وأقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي " .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم : معنى ذلك : أقم الصلاة لي فإنك إذا أقمتها ذكرتني . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " أقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي " قال : إذا صلى ذكر ربه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله " وَأقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي " قال : إذا ذكر عَبَد ربه .
قال آخرون : بل معنى ذلك : وأقم الصلاة حين تذكرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وأقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي " قال : يصليها حين يذكرها .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ومالك بن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلّها إذَا ذَكَرَها ، قال اللّهُ : أقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي » . وكان الزهري يقرؤها : أقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي بمنزلة فعلى .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : معناه : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، لأن ذلك أظهر معنييه ولو كان معناه : حين تذكرها ، لكان التنزيل : أقم الصلاة لذكركها . وفي قوله : لِذِكْرِي دلالة بينة على صحة ما قال مجاهد في تأويل ذلك ولو كانت القراءة التي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفيضة في قَراءة الأمصار ، كان صحيحا تأويل من تأوّله بمعنى : أقم الصلاة حين تذكرها ، وذلك أن الزهري وجّه بقراءته أقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرَى بالألف لا بالإضافة ، إلى أقم لذكراها ، لأن الهاء والألف حذفتا ، وهما مرادتان في الكلام ليوفق بينها وبين سائر رؤوس الاَيات ، إذ كانت بالألف والفتح . ولو قال قائل في قراءة الزهري هذه التي ذكرنا عنه ، إنما قصد الزهري بفتحها تصييره الإضافة ألفا للتوفيق بينه وبين رؤوس الاَيات قبله وبعده ، لأنه خالف بقراءته ذلك كذلك من قرأه بالإضافة ، وقال : إنما ذلك كقول الشاعر :
أُطَوّفُ ما أُطَوّفُ ثُمّ آوِي *** إلى أُمّا وَيُرْوِينِي النّقِيعُ
وهو يريد : إلى أمي ، وكقول العرب : يا أبا وأما ، وهي تريد : يا أبي وأمي ، كان له بذلك مقال .
{ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل . { وأقم الصلاة لذكري } خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها ، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره . وقيل { لذكري } لأني ذكرتها في الكتب وأمرت ، بها أو لأن أذكرك بالثناء ، أو { لذكري } خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري . وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري " .
وقوله { وأقم الصلاة لذكري } يحتمل أن يريد لتذكيري فيها أو يريد لأذكرك في عليين بها فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول واللام لام السبب ، وقالت فرقة معنى قوله { لذكري } أي عند ذكري إذا ذكرتني وأمري لك بها ، فاللام على هذا بمنزلتها في قوله { أقم الصلاة لدلوك الشمس }{[8085]} [ الإسراء : 78 ] وقرأت فرقة » للذكرى « ، وقرأت فرقة » لذكرى «بغير تعريف{[8086]} ، وقرأت فرقة » للذكر « .
هذا ما يوحى المأمور باستماعه ، فالجملة بدل من { ما يوحى } [ طه : 13 ] بدلاً مطلقاً .
ووقع الإخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلَم الدالّ على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد . وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية ، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علَماً عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيُخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربّهم .
وفي هذا إشارة إلى أنّ أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم ، فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلّم كليمه اسمه ، وهو الله .
وهذا الاسم هو علم الربّ في اللغة العربية . واسمه تعالى في اللغة العبرانية ( يَهْوهْ ) أو ( أَهْيَهْ ) المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة ، وفي الإصحاح السادس . وقد ذكر اسم الله في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة الثامنة عشرة ، والإصحاح الثاني والثلاثين في الفقرة السادسة عشرة . ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله .
ولفظ ( أهْيَهْ ) أو ( يَهْوَهْ ) قريب الحروف من كلمة إله في العربية .
ويقال : إن اسم الجلالة في العبرانية « لاَهُمْ » . ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله .
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى ؛ نزل منزلة الشاكّ لأن غرابة الخبر تعرّض السامع للشك فيه .
وتوسيط ضمير الفصل بقوله { إنَّني أنا الله } لزيادة تقوية الخبر ، وليس بمفيد للقصر ، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأنّ المتكلّم هو المسمى الله ، فالحمل حمل مواطاة لا حملُ اشتقاق . وهو كقوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 72 ] .
وجملة { لا إله إلاَّ أنا } خبر ثان عن اسم ( إنّ ) . والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى .
ثمّ فرع على ذلك الأمر بعبادته . والعبادة تجمع معنى العمل الدالّ على التعظيم من قول وفعل وإخلاصٍ بالقلب . ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يُعبد .
وخصّ من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأنّ الصلاة تجمع أحوال العبادة . وإقامة الصلاة : إدامتها ، أي عدم الغفلة عنها .
والذكر يجوز أن يكون بمعنى التذكر بالعقل ، ويجوز أن يكون الذكر باللّسان .
واللاّم في { لِذِكْرِي } للتّعليل ، أي أقم الصلاة لأجل أن تذْكُرني ، لأنّ الصلاة تذكّر العبد بخالقه . إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته . ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأنّ المكلّف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرّف موسى حكمَة الصلاة مُجملةً وعرّفها محمداً صلى الله عليه وسلم مفصّلة .
ويجوز أن يكون اللام أيضاً للتوقيت ، أي أقم الصلاة عند الوقت الذي جعلتُه لذِكري .
ويجوز أن يكون الذكر الذكرَ اللساني لأن ذكر اللسان يحرّك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعترافِ بما له من الحق ، أي الذي عيّنته لك . ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة ، وفي الكلام حذف يعلم من السياق .