ثم قال : " إنَّنِي{[23382]} أَنَا لاَ إلَه إلاَ أَنَأ فَاعْبُدْنِي " ولا تعبد غيري ، وهذا يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع : لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع .
وأيضاً فالفاء في قوله : { فَاعْبُدْنِي } تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهِيَّتِهِ .
فصل{[23383]}
احتجُّوا بهذه الآية على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة من وجهين :
الأول : أنه{[23384]} تعالى بعد أن أمره بالتوحيد أمره بالعبادة ، ولم يذكر كيفية العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان .
الثاني : أنه قال : " أَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي " ولم يبين كيفية الصلاة .
قال القاضي : لا يمتنع أن موسى عليه السلام{[23385]} -قد عرف الصلاة إلى تعبُّدَ الله تعالى{[23386]} -بها شُعَيْباً- عليه السلام{[23387]}- وغيره من الأنبياء ، فتوجه{[23388]} الخطاب إلى ذلك ، ويحتمل{[23389]} أنه تعالى بيَّن له في الحال ، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه{[23390]} إلا هذا القول .
وأجيب عن الأول : بأنه لا يتوجه في قوله تعالى : { فَاعْبُدْنِي } وأيضاً{[23391]} فحَمْلُ{[23392]} مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم ، لأن موسى -عليه السلام{[23393]}- ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب -عليه السلام-{[23394]} ، فلو حملنا قوله : { وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة ، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت فائدة زائدة . وقوله : لعلَّ اللهَ بيَّنه في ذلك الموضع{[23395]} ، وإن{[23396]} لم يحكه في القرآن قلنا : لا شك أن البيان ( أكثر فائدة ){[23397]} من المجمل ، فلو{[23398]} كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية .
{ لِذِكْرِي } يجوز أن يكون المصدرُ مضافاً لفاعله ، أي : لأنِّي ذكرتُها في الكتب ، أو لأني أذكرك . ( ويجوز أن يكون مضافاً لمفعوله ، أي : لأنْ تَذْكُرْنِي{[23399]} ){[23400]} وقل : معناه ذكر الصَّلاة بعد نسيانها ، لقوله -عليه السلام{[23401]}- : " مَنْ أقَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا " {[23402]} .
قال الزمخشري : وكان حق العبارة لِذِكْرِهَا{[23403]} ثم قال : ومَنْ يَتمحّل{[23404]} له أن يقول إذا ذكر الصلاة{[23405]} فقد ذكر الله أو على حذف مضاف أي لِذِكِر صلاتي ، أو لأن الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة{[23406]} وقرأ أبو رجاء{[23407]} والسلمي " لِلْذِكْرَى " بلام التعريف وألف التأنيث{[23408]} . وبعضهم : " لِذِكْرِي " منكَّرة{[23409]} وبعضهم : " لِلْذِّكْرِ " بالتعريف والتذكير{[23410]} .
فصل{[23411]}
ذكرُوا في قوله تعالى{[23412]} : { لِذِكْرِي } وجوهاً :
أحدها{[23413]} : لِذِكْرِي بمعنى{[23414]} لِتَذْكُرَنِي ، فإنَّ ذِكْرِي أنْ أُعْبَدَ ويُصَلَّى لِي .
والثاني{[23415]} : لتَذْكُرني منها لاشتمال الصلاة على الأذكار ؛ وعن مجاهد .
وثالثها : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها .
ورابعها : لأن أَذْكُرَك بالمدح والثناء .
وخامسها : لِذِكْرِي خاصة لا يشوبه ذكرُ غيري .
وسادسها : لتكون لي ذاكراً{[23416]} غير ناس فعل المخلصين ، كقوله : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله }{[23417]} .
وسابعها : لأوقات ذِكْرِي ، وهي مواقيت الصلاة ، لقوله : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً }{[23418]} .
وثامنها : أقِم الصَّلاة{[23419]} حين تذكرها أي : إنَّكَ إذَا نسيتَ صلاةً فاقْضها إذا ذكرتَها ، قال عليه السلام{[23420]} : " مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ولاَ كَفَّارَةَ لهَا إلاَّ ذلِك " ثم قرأ " أقِم الصَّلاَةَ ( لِذِكْرِي{[23421]} ) " {[23422]} . قال الخطَّابي{[23423]} هذا الحديث يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يكفرها غير قضائها .
والآخر : أنه لا يلزمه فغي نسيانها غرامة ، ولا كفارة ، كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر ، وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً فدية من دم أو طعام{[23424]} إنما يصلّي ما ترك فقط .
فإن قيل{[23425]} : حق العبادة أن يقول : صَلِّ الصَّلاةَ لذكرِها ، كما قال عليه السلام{[23426]} : " إذَا ذَكَرَهَا " .
فالجواب{[23427]} : قوله : { لِذِكْرِي } معناه : للذِّكْر{[23428]} الحاصل بِخَلْقِي . أو بتقدير حذف مضاف أي : لذكر صلاتي .
لو فاتته صلاة{[23431]} يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ، فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي{[23432]} -رحمه الله-{[23433]} ، ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر{[23434]} فائتة ، فإن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز ، وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فاتت صلاة الوقت فيجب البداءة{[23435]} بصلاة الوقت لئلا تفوت الأخرى . ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمّها ثم قضى الفائتة . ويستحبّ أن يعيد صلاة الوقت{[23436]} بعدها ، ولا يجب . وقال أبو حنيفة رحمه الله : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم الجمعة حتى قال : ولو{[23437]} تذكر في صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت ، فيقضي الفائتة ، ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيِّقاً فلا يبطل ، واستدل بالآية والخبر والقياس والأثر . أما الآية فقوله تعالى : { أقم الصلاة لذكري } أي لتذكرها و " اللام " بمعنى " عند " كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس }{[23438]} أي عند دلوك الشمس{[23439]} ، فالمعنى : أَقِم الصَّلاَةَ عِنْدَ تَذْكرها ، وذلك يقتضي وجوب الترتيب . وأما الخبر فقوله عليه السلام{[23440]} : " مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها " {[23441]} والفاء للتعقيب . وروي في الصحيحين " أنَّ عُمَرَ بن الخطاب جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق فجعَلَ يَسُبُّ كفارَ قريش ويقول : والله يا رسول الله{[23442]} ما صلَّيْتُ العصرَ حتَّى كادت الشَّمْسُ تغربَ . فقال النبي{[23443]} صلى الله عليه وسلم : " وَأنَا{[23444]} والله ما صلَّيْتُهَا بعد " قال : فنزل إلى بُطْحَان{[23445]} فَصلى العصرَ ( بَعْدَ ما غَرَبَت الشمسُ ){[23446]} ثم صلى بعدها المغرب " {[23447]} والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه قال : " صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي " {[23448]} وقد صلى الفوائت على الولاء فيجب علينا اتباعه{[23449]} .
والثاني : أن فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مخرج البيان للمجمل{[23450]} كان حجة ، وهذا{[23451]} الفعل خرج بياناً لمجمل قوله : { أَقِيمُوا الصَّلاةَ }{[23452]} ولهذا قالوا : إن الفوائت إذا كانت قليلة يجب مراعاة الترتيب فيها ، فإذا كثرت سقط الترتيب للمشقة . وأما الأثر : فرُوِي عن ابن عمر أنه قال : " مَنْ فاتَهُ صلاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلا في صَلاةِ الإمام فليمض في صلاته ، فإذَا قَضَى صلاتَه مع الإمَام يُصَلِّي ما فاته ، ثم ليعُد{[23453]} التي صلاها مع الإمام " {[23454]} وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما القياس : فإنهما{[23455]} صلاتا فرض جمعهما وقت واحد{[23456]} في اليوم والليلة ، فأشبهتا صلاتي{[23457]} عرفةٍ والمزدلفة ، فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما ، وجي أن يكون حكم الفوائت فيما{[23458]} دون اليوم والليلة كذلك .
واحتج الشافعي رحمه الله{[23459]} بما روى أبو قتادة{[23460]} : " أنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يقُودُوا رَوَاحِلَهُم{[23461]} ثُمَّ صَلاَّهَا " . ولو كان وقت التذكير{[23462]} معيناً للصلاة لما جاز ذلك ، فعلمنا أن ذلك الوقت وقت{[23463]} لتقرر الوجوب عليه ، لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع ، وإذا ثبت هذا فنقول : إيجاب قضاء الفوائت ، وإيجاب أداء{[23464]} فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير{[23465]} بين الواجبين ، فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ، ولأنه لو كان الترتيب واجباً في الفوائت لما سقط بالنسيان ، ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في{[23466]} يوم غيْم ، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال ( والعصر بعد الزوال ){[23467]} فإنه يعيدهما جميعاً ، ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان{[23468]} شرطاً فيهما ، فها هنا أيضاً لو كان الترتيب شرطاً فيهما لما كان يسقط{[23469]} بالنسيان .