ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي ، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد :
( قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لأرجمنك . واهجرني مليا ) .
أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة ? ! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا . استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة : ( واهجرني مليا ) . .
بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى . وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب . وذلك شأن الإيمان مع الكفر ؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر .
يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم [ لولده إبراهيم ]{[18860]} فيما دعاه إليه أنه قال : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } يعني : [ إن كنت لا ]{[18861]} تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها وشتمها وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك ، وهو{[18862]} قوله : { لأرْجُمَنَّكَ } ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وابن جريج ، والضحاك ، وغيرهم .
وقوله : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } : قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن إسحاق : يعني دهرًا .
وقال الحسن البصري : زمانًا طويلا . وقال السدي : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال : أبدًا .
وقال علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال : سويًّا سالمًا ، قبل أن تصيبك مني عقوبة . وكذا قال الضحاك ، وقتادة وعطية الجَدَلي و[ أبو ]{[18863]} مالك ، وغيرهم ، واختاره ابن جرير .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : قال أبو إبراهيم لإبراهيم ، حين دعاه إبراهيم إلى عبادة الله وترك عبادة الشيطان ، والبراءة من الأوثان والأصنام : أرَاغِبٌ أنْتَ يا إبراهيم عن عبادة آلهتي ؟ لَئِن أنت لَمْ تَنْتَهِ عن ذكرها بسوء لأَرْجُمَنّكَ يقول : لأرجمنك بالكلام ، وذلك السبّ ، والقول القبيح . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قال أرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ بالشتيمة والقول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، في قوله : لَئِنَ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ قال : بالقول لأشتمنك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لأَرْجُمَنّكَ يعني : رجْم القول .
وأما قوله : وَاهْجُرْنِي مَلِيّا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : واهجرني حينا طويلاً ودهرا . ووجّهوا معنى المليّ إلى المُلاوة من الزمان ، وهو الطويل منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قوله : وَاهجُرْنِي مَلِيّا قال : دهرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله مَلِيّا قال حينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : طويلاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : زمانا طويلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق وَاهْجُرْنِي مَلِيّا يقول : دهرا ، والدهر : المليّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال دهرا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، حدثنا أسباط ، عن السديّ وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : أبدا . وقال آخرون : بل معنى ذلك : واهجرني سَويّا سالما من عقوبتي إياك ، ووجّهوا معنى المليّ إلى قول الناس : فلان مليّ بهذا الأمر : إذا كان مضطلعا به غنيا فيه . وكأن معنى الكلام كان عندهم : واهجرني وعرضُك وافر من عقوبتي ، وجسمك معافى من أذاي . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس وَاهْجُرْنِي مَلِيّا يقول : اجتنبني سَوِيّا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : اجتنبني سالما قبل أن يصيبك مني عقوبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاهْجُرْنِي مَليّا قال : سالما .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن كثير بن درهم أبو غسان ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن عطية الجدلي وَاهْجُرْنِي مَلِيّا قال : سالما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَاهْجُرْنِي مَليّا : اجتنبني سالما لا يصيبك مني معرّة .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الاَية عندي قول من قال : معنى ذلك : واهجرني سويا ، سِلما من عقوبتي ، لأنه عقيب قوله : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيىء ، والذي هو أولى بأن يتبع ذلك التقدّم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة ، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له .
{ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظه العناد فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبتي } بيا بني ، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده فقال : { لئن لم تنته } عن مقالك فيها أو الرغبة عنها . { لأرجمنك } بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت ، أو تبعد مني . { واهجرني } عطف على ما دل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني . واهجرني { مليا } زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.