وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة ، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين . يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها . وللحساب عليها والجزاء . ولقاعدة الجزاء عامة . القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد . ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم ، وأن يتخلقوا بخلق الله - خلق العدل - فيها :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما . ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه . وكان الله عليما حكيما ) . . ومن يكسب خطيئة أو إثما ، ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينًا . .
إنها آيات ثلاث تقرر المبادىء الكلية التي يعامل بها الله عباده ؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضا بها ، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء .
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه ، وباب المغفرة على سعته ؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيمًا . . ) إنه - سبحانه - موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب . . والذي يعمل السوء يظلم غيره . ويظلم نفسه . وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه . . وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين ؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين . هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بواب ! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفورا رحيما . .
يخبر ، تعالى ، عن كرمه وجوده : أن كل من تاب إليه تاب عليه من أيّ ذنب كان .
فقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وَسَعة رحمته ، ومغفرته ، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرًا { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال . رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا محمد بن مُثَنَّى ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم ذنبًا أصبح قد كُتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئًا منه قرضه بالمقراض{[8282]} فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا - فقال عبد الله : ما آتاكم الله خيرا مما آتاهم ، جعل{[8283]} الماء لكم طهورًا ، وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] وقال { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }
وقال أيضًا : حدثني يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، حدثنا ابن عَوْن ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفَّل فسألته عن امرأة فَجَرت فحبلت ، فلما{[8284]} ولدت قتلت ولدها ؟ قال عبد الله بن مغفل : ما لها ؟ لها النار ! فانصرفت وهي تبكي ، فدعاها{[8285]} ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } قال : فمسحت عينها ، ثم مضت{[8286]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن عثمان بن المغيرة قال : سمعت علي بن ربيعة من بني أسد ، يحدث{[8287]} عن أسماء - أو ابن أسماء من بني فزارة{[8288]} - قال : قال علي ، رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه . وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يذنب{[8289]} ذنبًا ثم يتوضأ فيصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له " . وقرأ هاتين الآيتين : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[8290]} } { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الآية{[8291]} .
وقد تكلما على هذا الحديث ، وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن ، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه . وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضًا .
وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، حدثنا داود بن مِهْران الدباغ ، حدثنا عمر بن يزيد ، عن أبي إسحاق ، عن عبد خير ، عن علي قال : سمعت أبا بكر - هو الصديق -{[8292]} يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه ، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه ، إلا كان حقا على الله أن يغفر له ؛ لأنه يقول : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[8293]} } .
ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي ، عن الصديق - بنحوه . وهذا إسناد لا يصح{[8294]} .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا موسى بن مروان الرَّقِّي ، حدثنا مُبَشِّر بن إسماعيل الحلبي ، عن تمام بن نَجِيح ، حدثني كعب بن ذُهْل الأزدي قال : سمعت أبا الدرداء يحدث قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله ، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه ، وإنه قام فترك نعليه . قال أبو الدرداء : فأخذ رَكْوَة من ماء فاتبعته ، فمضى ساعة ، ثم رجع ولم يقض حاجته ، فقال : " إنه أتاني آت من ربي فقال : إنه : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } فأردت أن أبشر أصحابي " . قال أبو الدرداء : وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر ربه ، غفر{[8295]} له ؟ قال : " نعم " قلت الثانية ، قال : " نعم " ، ثم قلت الثالثة ، قال : " نعم ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر الله غفر له على رغم أنف عويمر " . قال : فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه .
هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه بهذا السياق ، وفي إسناده ضعف{[8296]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.