ثم يبين منزلة هذا القرآن عنده وقيمته في تقديره الأزلي الباقي :
( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) . .
ولا ندخل في البحث عن المدلول الحرفي لأم الكتاب ما هي : أهي اللوح المحفوظ ، أم هي علم الله الأزلي . فهذا كهذا ليس له مدلول حرفي محدد في إدراكنا . ولكننا ندرك منه مفهوماً يساعد على تصورنا لحقيقة كلية . وحين نقرأ هذه الآية : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) . . فإننا نستشعر القيمة الأصيلة الثابتة لهذا القرآن في علم الله وتقديره . وهذا حسبنا . فهذا القرآن( عليّ ) . . ( حكيم ) . . وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة . وإنه لكذلك ! وكأنما فيه روح . روح ذات سمات وخصائص ، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها . وهو في علوه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه . وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان : علي . حكيم .
وتقرير هذه الحقيقة كفيل بأن يشعر القوم الذين جعل القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم ، وقيمة النعمة التي أنعم الله عليهم ؛ ويكشف لهم عن مدى الإسراف القبيح في إعراضهم عنها واستخفافهم بها ، ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض ؛
{ وإنه } أي القرآن{ في أم الكتاب } وهو اللوح المحفوظ ؛ إذ هو أصل الكتب السماوية ، وكلها منقولة منه ؛ قال تعالى : " وعنده أم الكتاب " {[312]} . " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون " {[313]} . " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " {[314]} . أو هو العلم الأرلي{ لدينا } أي عندنا{ لعلي } رفيع القدر{ حكيم } محكم النظم في أعلى طبقات البلاغة ؛ فلا يضيره تكذيب المكذبين ، ولا طعن الطاعنين .
قوله تعالى : { وإنه } يعني القرآن ، { في أم الكتاب } في اللوح المحفوظ . قال قتادة : أم الكتاب : أصل الكتاب ، وأم كل شيء : أصله . قال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب بما يريد أن يخلق ، فالكتاب عنده ، ثم قرأ ( وإنه في أم الكتاب ) { لدينا } ، فالقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال : { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } ( البروج-21 ) . { لعلي حكيم } ، قال قتادة : يخبر عن منزلته وشرفه ، أي : إن كذبتم بالقرآن يا أهل مكة فإنه عندنا لعلي رفيع شريف محكم من الباطل .
قوله تعالى : " وإنه في أم الكتاب " يعني القرآن في اللوح المحفوظ " لدينا " عندنا .
" لعلي حكيم " أي رفيع محكم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض ، قال الله تعالى : " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون " {[13579]} [ الواقعة :78 ] وقال تعالى : " بل هو قرآن مجيد{[13580]} . في لوح محفوظ " [ البروج :22 ] . وقال ابن جريج : المراد بقوله تعالى : " وإنه " أي أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية . " لعلي " أي رفيع عن أن ينال فيبدل " حكيم " أي محفوظ من نقص أو تغيير . وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق ، فالكتاب عنده ، ثم قرأ " وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " . وكسر الهمزة من " أم الكتاب " حمزة والكسائي . وضم الباقون ، وقد تقدم{[13581]} .
ولما كانوا ينكرون تعظيمه عناداً وإن كانوا يقرون بذلك في بعض الأوقات ، قال مؤكداً لذلك وتنبيهاً على أنه أهل لأن يقسم به ، ويزاد في تعظيمه لأنه لا كلام يشبهه ، بل ولا يدانيه بوجه : { وإنه } أي القرآن ، وقدم الظرفين على الخبر المقترن باللام اهتماماً بهما ليفيد بادئ بدء أن علوه وحكمته ثابتة في الأم وأن الأم في غاية الغرابة عنده { في أم الكتاب } أي كائناً في أصل كل كتاب سماوي ، وهو اللوح المحفوظ ، وزاد في شرفه بالتعبير بلدى التي هي لخاص الخاص وأغرب المستغرب ونون العظمة فقال مرتباً للظرف على الجار ليفيد أن أم الكتاب من أغرب الغريب الذي عنده { لدينا } على ما هو عليه هناك { لعليّ } .
ولما كان العلي قد يتفق علوه ولا تصحبه في علوه حكمة ، فلا يثبت له علوه ، فيتهور بنيانه وينقص سفوله ودنوه ، قال : { حكيم } أي بليغ في كل من هاتين الصفتين راسخ فيهما رسوخاً لا يدانيه فيه كتاب فلا يعارض في عليّ لفظه ، ولا يبارى في حكيم معناه ، ويعلو ولا يعلى عليه بنسخ ولا غيره ، بل هناك مكتوب بأحرف وعبارات فائقة رائقة تعلو عن فهم أعقل العقلاء ، ولا يمكن بوجه أن يبلغها أنبل النبلاء ، إلا بتفهيم العلي الكبير ، الذي هو على كل شيء قدير .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أخر سبحانه بامتحان خلف بني إسرائيل في شكهم في كتابهم بقوله :{ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب }[ الشورى : 14 ] ووصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتبرئ من سيئ حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال
{ ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب }الآية [ الشورى : 15 ] وتكرر الثناء على الكتاب العربي كقوله{ وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً }[ الشورى : 7 ] وقوله{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }[ الشورى : 17 ] وقوله { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } - إلى آخر السورة ، أعقب ذلك بالقسم به وعضد الثناء عليه فقال { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.