فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا . فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) . . .
( ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله ) . . . وهم مؤمنون . . ولكن هذا البيان ، وهذه الكفارات وما فيها من ربط أحوالهم بأمر الله وقضائه . . ذلك مما يحقق الإيمان ، ويربط به الحياة ؛ ويجعل له سلطانا بارزا في واقع الحياة . ( وتلك حدود الله ) . . أقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها . وهو يغضب على من لا يرعاها ولا يتحرج دونها : ( وللكافرين عذاب أليم ) . . بتعديهم وتحديهم وعدم إيمانهم وعدم وقوفهم عند حدود الله كالمؤمنين . .
فالذي لا يستطيع أن يعتق عبداً عليه أن يصوم شهرين متتابعين من قبلِ أن يمسّ زوجته .
3- { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } .
فمن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين لعذرٍ شرعي ، فعليه أن يطعمَ ستين مسكيناً من الطعام المتعارف عليه .
ذلك الذي بينّاه وشرعناه لتؤمنوا بالله ورسوله ، وتعملوا بما شرعنا لكم . وهذا تسهيل من الله على عباده ولطفِهِ بهم ، وتلك حدود الله فلا تتجاوزوها { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وفي هذا تهديد كبير .
{ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } : أي فمن لم يجد الرقبة لانعدامها أو غلاء ثمنها فالواجب صيام شهرين متتابعين .
{ من قبل أن يتماسا } : أي من قبل الوطء لها .
{ فمن لم يستطع } : أي الصيام لمرض أو كبر سن .
{ فإطعام ستين مسكيناً } : أي فعليه قبل الوطء ، أن يطعم ستين مسكيناً يعطي لكل مسكين مداً من بر أو مدين من غير البر كالتمر والشعير ونحوهما من غالب قوت أهل البلد .
{ ذلك } : أي ما تقدم من بيان حكم الظهار الذي شرع لكم ، { لتؤمنوا بالله ورسوله } : أي لأن الطاعة إيمان والمعصية من الكفران .
{ وتلك حدود الله } : أي أحكام شرعه . { وللكافرين عذاب أليم } : أي وللكافرين بها الجاحدين لها عذاب أليم أي ذو ألمٍ .
فمن لم يجد الرقبة لانعدامها ، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع لعلة قامت به ، فالواجب إطعام ستين مسكيناً يعطي كل مسكين مدّاً من برّ أو نصف صاع من غير البر كالشعير والتمر ونحوهما كل ذلك من قبل أن يتماسَّا من باب حمل المطلق على المقيد إذ قيد الأول بقبل المسيس فيحمل هذا الأخير عليه .
وقوله { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } أي ذلك الذي تقدم من بيان حكم الظهار شرعه لكم لتؤمنوا بالله ورسوله إذ الإِيمان اعتقاد وقول وعمل ، فطاعة الله ورسوله إيمان ومعصيتهما من الكفران . وقوله تعالى { وتلك حدود الله } أي لا تعتدوها بل قفوا عندها وللكافرين بها المتعدين لها عذاب أليم أي ذو ألم موجع جزاء تعديهم حدود الله .
- لو جامع المظاهر قبل إخراج الكفارة أثم فليستغفر ربّه وليخرج كفارته . ولا شيء عليه لحديث الترمذي الصحيح .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } رقبة يعتقها ، بأن لم يجدها أو [ لم ] يجد ثمنها { ف } عليه { صيام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ } الصيام { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } إما بأن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم ، كما هو قول كثير من المفسرين ، وإما بأن يطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصف صاع من غيره مما يجزي في الفطرة ، كما هو قول طائفة أخرى .
ذلك الحكم الذي بيناه لكم ، ووضحناه لكم { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره من الأحكام ، والعمل به ، فإن التزام أحكام الله ، والعمل بها من الإيمان ، [ بل هي المقصودة ] ومما يزيد به الإيمان{[1006]} ويكمل وينمو .
{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } التي تمنع من الوقوع فيها ، فيجب أن لا تتعدى ولا يقصر عنها .
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وفي هذه الآيات ، عدة أحكام :
منها : لطف الله بعباده واعتناؤه بهم ، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة ، وأزالها ورفع عنها البلوى ، بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية .
ومنها : أن الظهار مختص بتحريم الزوجة ، لأن الله قال { مِنْ نِسَائِهِمْ } فلو حرم أمته ، لم يكن [ ذلك ] ظهارا ، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب ، تجب فيه كفارة اليمين فقط .
ومنها : أنه لا يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها ، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار ، كما لا يصح طلاقها ، سواء نجز ذلك أو علقه .
ومنها : أن الظهار محرم ، لأن الله سماه منكرا [ من القول ] وزورا .
ومنها : تنبيه الله على وجه الحكم وحكمته ، لأن الله تعالى قال : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .
ومنها : أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها{[1007]} باسم محارمه ، كقوله { يا أمي } { يا أختي } ونحوه ، لأن ذلك يشبه المحرم .
ومنها : أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر ، على اختلاف القولين السابقين لا بمجرد الظهار .
ومنها : أنه يجزئ في كفارة الرقبة ، الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، لإطلاق الآية في ذلك .
ومنها : أنه يجب إخراجها{[1008]} إن كانت عتقا أو صياما قبل المسيس ، كما قيده الله ، بخلاف كفارة الإطعام ، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها .
ومنها : أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس ، أن ذلك أدعى لإخراجها ، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع ، وعلم أنه لا يمكن من ذلك إلا بعد الكفارة ، بادر لإخراجها .
ومنها : أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا ، فلو جمع طعام ستين مسكينا ، ودفعها لواحد أو أكثر من ذلك ، دون الستين لم يجز ذلك ، لأن الله قال : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } .
{ فمن لم يجد } الرقبة لفقرة { فصيام شهرين متتابعين } لو أفطر فيما بين ذلك بطل التتابع ويجب عليه الاستئناف { فمن لم يستطع } ذلك لمرض أو لخوف مشقة عظيمة { فإطعام ستين مسكينا } لكل مسكين مد من غالب القوت { ذلك } أي الفرض الذي وصفنا { لتؤمنوا بالله ورسوله } لتصدقوا ما أتى به الرسول عليه السلام وتصدقوا أن الله تعالى به أمر { وتلك حدود الله } يعني ما وصف في الظهار والكفارة { وللكافرين } لمن لم يصدق به { عذاب أليم } .
السابعة- من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه ، فله أن يصوم عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك . وقال مالك : إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة ، وهي :
الثامنة- فعليه صوم شهرين متتابعين . فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما ، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض ، فقيل : يبني ، قاله ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي ، وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه ، وقال مالك : إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح ، ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ وهو أحد قولي الشافعي .
التاسعة- إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي ، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه . ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه ، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها ، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء . وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر{[14762]} ، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ، لقوله : " متتابعين " . ويبني في قول الحسن البصري ؛ لأنه عذر وقياسا{[14763]} على رمضان ، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع .
العاشرة- إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا ، بطل التتابع في قول الشافعي ، وليلا فلا يبطل ، لأنه ليس محلا للصوم . وقال مالك وأبو حنيفة : يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة ، لقوله تعالى : " من قبل أن يتماسا " وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين ، وإلى أبعاضهما ، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به ، فلزمه استئنافه ، كما لو قال : صل قبل أن تكلم زيدا . فكلم زيدا في الصلاة ، أو قال : صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها ؛ لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا ، والله أعلم .
الحادية عشرة- ومن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر ، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام ، ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام ، ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه .
الثانية عشرة- ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم ، ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام ، وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر ، ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق ، ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى ، وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه ، ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك .
ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه . وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين . وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين . وقد قيل : إن ذلك يجزيه . ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى . ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى . ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين ، لم يجزه العتق ولا الصيام ، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين ، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام ؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق .
الأولى : ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن أطعم مدا بمد هشام ، وهو مدان إلا ثلثا ، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عمر بن عبدالبر : وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار " من أوسط ما تطعمون{[14764]} " [ المائدة : 89 ] فواجب قصد الشبع . قال ابن العربي : وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبدالحكم : مد بمد هشام وهو الشبع ها هنا ؛ لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط . وقال في رواية أشهب : مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم{[14765]} : قيل له : ألم تكن قلت مد هشام ؟ قال : بلى ، مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي . وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا .
قلت : وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك : أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك ، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد ، أصله كفارة الإفطار واليمين ، ودليلنا قوله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } وإطلاق الإطعام يتناول الشبع ، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه ، وكذلك قال أشهب : قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم ؟ قال نعم ! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم ، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن . وقال أبو الحسن القابسي : إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا . قال ابن العربي : وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون ، ووددت أن يهشم الزمان ذكره ، ويمحو من الكتب رسمه ، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول بها ووقع عندهم الظهار ، وقيل لهم فيه : { فإطعام ستين مسكينا } فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع ، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم ، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا ، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام ، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه ، ولا مثله من حواشيه ونظرائه ، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه ، فجعله رطلين وحمل الناس عليه ، فإذا ابتَلَّ عاد نحو الثلاثة الأرطال ، فغير السنة وأذهب محل البركة . قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم ، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة ، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده ، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة ، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام ، فكان من حق العلماء أن يلغوا{[14766]} ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره ، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام ، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم ، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام . ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب : الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة ، وبهذا أقول ، فإن العبادة إذا أديت بالسنة ، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول ، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان ، وأبرك في يد الآخذ ، وأطيب في شدقه ، وأقل آفة في بطنه ، وأكثر إقامة لصلبه{[14767]} ، والله أعلم{[14768]} .
الثانية : ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه .
الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحَجْر على الحر باطل . واحتج بقوله تعالى : " فتحرير رقبة " ولم يفرق بين الرشيد والسفيه ، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره ، فإن هذه الآية عامة ، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه ، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه ، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام .
الرابعة : وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا ، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما .
الخامسة- قوله تعالى : { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة " لتؤمنوا " أي لتصدقوا أن الله أمر به . وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى ، لما ذكرها وأوجبها قال : { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله }أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها ، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان . فإن قيل : معنى قوله : { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور ، وقيل له : قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا ، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا ، إذ كان الله منع من مسيسها ، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله ، لأنها حدود تحفظونها ، وطاعات تؤدونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان . وبالله التوفيق . السادسة- " وتلك حدود الله " أي بين معصيته وطاعته ، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة . " وللكافرين عذاب أليم " أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم .
ولما كانت الكفارة مرتبة ، وكان المظاهر كأنه قد قتل نفسه بقتل المظاهر عنها كما مضى ، فكان مفتقراً إلى ما يحيي{[63120]} نفسه فشرع له العتق الذي هو كالإحياء ، شرع له عند العجز عنه ما يميت نفسه التي{[63121]} إماتتها له إحياؤها ، وكان الشهران نصف المدة التي ينفخ فيها الروح ، فكان صومها كنصف قتل النفس التي قتلها إحياء الروح وإنعاش العقل ، فكان كأنه إماتتها{[63122]} فجعله سبحانه بدلاً عن القتل الذي هو كالإحياء فقال : { فمن لم يجد } أي الرقبة المأمور بها بأن{[63123]} كان فقيراً ، فإن كان غنياً وماله غائب فهو واجد { فصيام } أي فعليه صيام { شهرين } . ولما كان المراد كسر النفس كما مضى ، وكانت المتابعة أنكى ولذلك{[63124]} سمي رمضان شهر الصبر ، قيد بقوله : { متتابعين } أي على أكمل وجوه التتابع على حسب الإمكان بما أشار إليه الإظهار ، فلو قطع التتابع بشيء ما ولو كان بنسيان النية وجب عليه الاستئناف والإغماء لا يقطع التتابع لأنه ليس في الوسع وكذا{[63125]} الإفطار بحيض أو نفاس أو جنون بخلاف الإفطار بسفر أو مرض{[63126]} أو خوف{[63127]} على حمل أو رضيع لأن الحيض معلوم فهو مستثنى شرعاً ، وغيره مغيب للعقل{[63128]} - مزيل للتكليف ، وأما المرض ونحوه ففيه تعمد الإفطار مع وجود العقل .
ولما كان الإمساك عن المسيس قد يكون أوسع من الشهرين ، أدخل الجار فقال : { من قبل } وحل المصدر إفادة{[63129]} لمن يكون بعد المظاهرة فقال : { أن يتماسا } فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع . ولما كان إطعام نفس قوت نصف يوم كإماتة نفسه بالصيام يوماً قال تعالى : { فمن لم يستطع } أي يقدر على الصيام قدرة تامة - بما أشار إليه إظهار التاء لهرم أو مرض أو شبق مفرط يهيجه{[63130]} الصوم { فإطعام } أي فعليه إطعام { ستين مسكيناً } لكل مسكين ما يقوته نصف يوم ، وهو مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نحو نصف قدح بالمصري ، وهو ملء حفنتين بكفي معتدل الخلق{[63131]} من غالب قوت البلد ، وهو كما في الفطرة سواء ، وحذف قيد المماسة لذكره في الأولين ، ولعل الحكمة في تخصيص هذا به أن ذكره في أول الخصال لا بد منه ، وإعادته{[63132]} في الثاني لطول مدته فالصبر عنه فيها{[63133]} مشقة ، وهذا يمكن أن يفعل في لحظة لطيفة لا مشقة للصبر فيها عن المماسة ، هذا إذا عاد ، فإن وصل الظهار بالطلاق أو مات أحدهما في الحال قبل إمكان الطلاق فلا كفارة ، قال البغوي{[63134]} : لأن العود{[63135]} في القول{[63136]} هو المخالفة ، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما العود بالندم فقال : يندمون ويرجعون إلى الألفة ، وهذا يدل على ما قال الشافعي رضي الله عنه : فإن ظاهر عن{[63137]} الرجعية انعقد ظهاره{[63138]} فإن راجعها لزمته الكفارة لأن الرجعة عود .
ولما ذكر الحكم ، بين علته ترغيباً فيه فقال : { ذلك } أي الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي {[63139]}من أمر{[63140]} الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان { لتؤمنوا } أي{[63141]} وهذا الفعل العظيم الشاق ليتجدد إيمانكم ويتحقق وجوده { بالله } أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوه بالانسلاخ من فعل الجاهلية { ورسوله } الذي تعظيمه من تعظيمه وقد بعث بملة أبيه{[63142]} إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فلو ترك هذا الحكم الشديد على ما كان عليه في الجاهلية لكان مشككاً في البعث بتلك الملة السمحة .
ولما رغب في هذا الحكم ، رهب من التهاون به فقال : { وتلك } أي{[63143]} هذه الأفعال المزكية وكل ما سلف من أمثالها في هذا الكتاب الأعظم { حدود الله } أي أوامر الملك الأعظم ونواهيه وأحكامه{[63144]} التي يجب امتثالها والتقيد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها{[63145]} وقفوا عندها ولا تعتدوها{[63146]} فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدى نقضه أو{[63147]} إبرامه ، ولما كان التقدير : فللمؤمنين بها جنات النعيم ، عطف عليه قوله { وللكافرين } أي العريقين في الكفر بها{[63148]} أو بشيء من شرائعه { عذاب أليم * } بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء .