تلك صفحة الحياة ، ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار :
( وجاءت سكرة الموت بالحق . ذلك ما كنت منه تحيد ) . .
والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه ، أو يبعد شبحه عن خاطره . ولكن أنى له ذلك : والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطيء الخطى ، ولا يخلف الميعاد ؛ وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال ! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان : ( ذلك ما كنت منه تحيد ) . وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة ! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات ! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : " سبحان الله . إن للموت لسكرات " . . يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله . فكيف بمن عداه ?
ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) . . وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملا وهي في سكرات الموت . تراه بلا حجاب ، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد ، ولكن بعد فوات الأوان ، حين لا تنفع رؤية ، ولا يجدي إدراك ، ولا تقبل توبة ، ولا يحسب إيمان . وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج ! . . وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئا ولا يفيد !
ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن الإنسانَ عند الموت ينكشفُ له كل شيء فقال :
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
ومعنى ذلك أن النفسَ وهي في سكرات الموت ترى الحقَّ كاملاً واضحاً ، تراه بلا حجاب في تلك الساعة ، وتدرك ما كانت تجهل ، وهو الحق الذي كنتَ تفرّ منه أيها الكافر ، ها قد جاءك فلا حيدَ عنه ولا مناص .
{ 19-22 } { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
أي { وَجَاءَتْ } هذا الغافل المكذب بآيات الله { سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } الذي لا مرد له ولا مناص ، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : تتأخر وتنكص{[826]} عنه .
قوله تعالى : " وجاءت سكرة الموت بالحق " أي غمرته شدته ، فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها ، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده . وقيل : الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق ، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين . وقيل : يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى ، أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت . وقيل : الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت ، ذكره المهدوي . وقد زعم من طعن على القرآن فقال : أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ : وجاءت سكرة الحق بالموت . فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان : إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل ، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها ، أو الغلط من بعض من نقل الحديث . قال أبوبكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال : لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت : هذا كما قال الشاعر :
إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَّدْرُ{[14166]}
فقال أبو بكر : هلا قلت كما قال الله : " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " وذكر الحديث . والسكرة واحدة السكرات . وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعُلْبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء ، فيمسح بهما وجهه ويقول : ( لا إله إلا الله إن للموت سكرات ) ثم نصب يده فجعل يقول : ( في الرفيق الأعلى ) حتى قبض ومالت يده . خرجه البخاري . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة ) . وقال عيسى ابن مريم : " يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة " يعني سكرات الموت . وروي : ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) . " ذلك ما كنت منه تحيد " أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه . يقال : حاد عن الشيء يحيد حُيودا وحَيْدة وحَيْدُودَة مال عنه وعدل . وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت ؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق . وتقول في الأخبار عن نفسك : حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه ، قال طرفة :
أبا منذرٍ رُمْتَ الوفاء فَهِبْتُهُ *** وحِدْتَ كما حاد البعيرُ عن الدَّحْضِ
قوله : { وجاءت سكرة الموت بالحق } { سكرة الموت } أي غمرته وشدته وما يغشى المرء من فظاعة الكرب إذا أتته الملائكة لانتزاع روحه . وحينئذ يظهر له اليقين وينكشف له الحق الذي كان يماري فيه . وهو وعد الله ووعيده .
قوله : { ذلك ما كنت منه تحيد } يقال للمرء إذا غشيه الموت بسكراته الفظيعة : ذلك الذي كنت تعدل عنه وتفرّ منه ولا تعبأ به . فها هو قد جاءك فلا مناص عنه ولا محيد . وقيل : { ما } نافية ، أي ذلك ما لا يستطيع مجانبته والحيدة عنه .
فهذه هي غمرة الموت بشدتها وفظاعتها تغشى الناس عند الاحتضار فتذهب بالعقول وتثير الهول والذهول . ويكشف عن هذه الحقيقة الرهيبة ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول " سبحان الله ، إن للموت سكرات " .