ولكن القرآن لا يذكر الأحكام جافة مجردة ، إنما يوردها في جو حي يتجاوب فيه الأحياء . ومن ثم أحاط كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث بصفاتها الواقعية الحية التي تصور طبيعتها وحقيقتها ؛ وتقرر الحكم حيا يتعامل مع هؤلاء الأحياء :
( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم الصادقون ) . .
وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين . . أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم . أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة . لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله . . . وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا )اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه . لا ملجأ لهم سواه ، ولا جناب لهم إلا حماه . . وهم مع أنهم مطاردون قليلون ( ينصرون الله ورسوله ) . . بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات . ( أولئك هم الصادقون ) . . الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وصدقوها بعملهم . وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه . وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه . وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس !
{ للفقراء المهاجرين } بدل من " ولذي القربى " أو متعلق بفعل محذوف ، والجملة استئناف بياني . وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى : { فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ولم يعلموا مصرف الأربعة الأخماس الباقية ؛ فكأنهم قالوا : فلمن تكون هذه ! فقيل : تكون للفقراء المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم ؛ فهي للمسلمين عامة ، وهو صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها تخصيصا وتعميما كما يشاء .
ولما نزع سبحانه أموال الفيء وما كانت عليه في الجاهلية ، وبين مصرف الفيء من القرى ، وتهدد في المخالفة في ذلك لصعوبته على النفوس ، فكان ذلك جديراً بالتقبل بعد أن أفهم أن أموال بني النضير لمن سلطه عليهم وهو رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان من المعلوم من حاله صلى الله عليه وسلم الإيثار على نفسه والقناعة بما دون الكفاف ، بين المصرف فيها بعد كفايته صلى الله عليه وسلم لأن بيان ذلك هو المقصود الأعظم لكونه حاصلاً حاضراً ، الموطأ له بأموال أهل القرى ، فقال مبدلاً من{[63883]} { لله وللرسول } وما عطف عليهما لأن{[63884]} من أعطى المهاجرين لهجرتهم وتجردهم من أموالهم وديارهم فإنما أعطاهم لوجه الله ووجه رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون بدلاً من { ذي القربى } لئلا يختص بفقيرهم ، أو يكون جواباً لمن كأنه{[63885]} قال : قد سمعنا وأطعنا فلمن{[63886]} يكون ما سلط الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أموالهم ؟ فقيل له : { للفقراء } أي الذي كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه{[63887]} البرد ، ما له دثار{[63888]} غيرها بعد أن كان له من الأموال ما يسعه ويفضل منه ما يصل به غيره ، وإنما وصفهم بالفقر لأنهم كانوا عند نزولها{[63889]} كذلك ، ثم خصص بالوصف فقال : { المهاجرين } ولما كانت الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر{[63890]} من غير مفارقة{[63891]} الوطن فقال : { الذين أخرجوا } وبناه للمفعول لأن المنكئ الإخراج ، لا كونه من مخرج معين { من ديارهم } ولما كان الإخراج هنا مضمناً معنى المنع ، واختبر التعبير به إشارة{[63892]} إلى أن المال السترة للإنسان لأنه ظرف له ، قال : { وأموالهم } .
ولما كان طلب الدنيا من النقائص ، بين أنه إذا كان {[63893]}من الله{[63894]} لم يكن كذلك ، وأنه لا يكون قادحاً في الإخلاص ، وأن أمر بني النضير إنما يسر{[63895]} تحقيقاً لرجائهم فقال : { يبتغون } أي أخرجوا{[63896]} حال كونهم يطلبون{[63897]} على وجه الاجتهاد . وبين أنه لا يجب عليه شيء لأحد بقوله تعالى : { فضلاً من الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له لأنه المختص بجميع صفات الكمال من الدنيا والدين والآخرة فيغنيهم بفضله عمن سواه { ورضواناً } يوفقهم لما{[63898]} يرضيه عنهم ولا يجعل{[63899]} رغبتهم في العوض منه قادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته .
ولما وصفهم بتعليق بواطنهم به سبحانه وقطعها بالرضا بالإخراج عمن و عما{[63900]} سواه ، وصفهم{[63901]} ببذل ظواهرهم له فقال : { وينصرون } أي{[63902]} على سبيل التجديد في كل وقت والاستمرار { الله } أي الملك الأعظم المجيد{[63903]} { ورسوله } الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان . ولما بان ما له بهم سبحانه من العناية{[63904]} ترقب السامع من مدحهم ما يليق بهذا الإخبار .
فقال مستأنفاً ما هو كالعلة لتخصيصهم : { أولئك } أي العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة { هم } أي خاصة {[63905]}لا غيرهم{[63906]} { الصادقون } العريقون في هذا الوصف لأن مهاجرتهم لما{[63907]} ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال{[63908]} صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث نابذوا من عاداهما{[63909]} وهو القريب الصافي نسباً وداراً وأولوا أولياءهما{[63910]} من كانوا وإن بعدت دارهم وشط مزارهم ، وهذا يدل على أن مبنى الدين على إقامة البينات{[63911]} بالثبات عن الابتلاءات{[63912]} على أن العون قد{[63913]} يأتي على قدر البلاء لأن الله تعالى قد{[63914]} خص المهاجرين مما أذن فيه من أموال بني النضير .
قوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون 8 والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتو ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 9 والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم 10 } .
ذلك ثناء من الله وإطراء للمهاجرين والأنصار . فالأولون تركوا الأهل والديار طلبا لمرضاة ربهم ، والآخرون استقبلوهم في دارهم وأحسنوا استقبالهم فكانوا بعظيم تكريمهم لهم وبالغ إتحافهم إياهم ، مثالا للكرم والتواضع والإيثار والمناصرة مما ليس له في تاريخ الأمم والشعوب نظير .
وههنا يقول الله عز وجل وعلا : ائتمروا بما أمركم به الله من صرف الفيء وجوهه المذكورة كيلا يكون متداولا بين الأغنياء منكم بل يكون للفقراء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم وعشيرتهم . وإنما خرجوا من ديارهم ابتغاء مرضاة الله وحبا في الله ورسوله واستنقاذا لأنفسهم من الشرك والفتنة وظلم الظالمين .
قوله : { أولئك هم الصادقون } أي الصادقون في أقوالهم وأفعالهم ، ذلك أنهم التزموا عقيدة التوحيد قولا وإيمانا واتخذوا دين الله شرعة لهم ومنهاجا .