وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة : ( وقالوا : لا تذرن آلهتكم ) . . بهذه الإضافة : ( آلهتكم )لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم . وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنا فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز . . ( ولا تذرن ودا ، ولا سواعا ، ولا يغوث ، ويعوق ، ونسرا ) . . وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية .
{ ولا تذرن ودا ولا سوعا . . . } وهذه الخمسة أكبر الأصنام والصور التي كان قوم نوح يعبدونها ، ثم عبدتها العرب من بعدهم كما عبدت غيرها ؛ فكان ود لكلب بدومة الجندل . وسواع لهذيل بساحل البحر أو لهمدان . ويغوث لبني غطيف من مراد بالجرف من سبأ . أو لمراد ثم لغطفان . ويعوق لهمدان باليمن ، أو لمراد . ونسر لذي الكلاع من حمير .
{ وقالوا لا تذرن آلهتكم } أي : وصى بعضهم بعضا بذلك .
{ ولا تذرن ودا ولا سواعا } هذه أسماء أصنامهم ، كان قوم نوح يعبدونها وروي : أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا ، فلما ماتوا صورهم أهل ذلك العصر من حجارة وقالوا : ننظر إليها لنتذكر أعمالهم الصالحة ، فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيمهم من بعدهم لتلك الصور حتى عبدوها من دون الله ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل العرب ، فكان ودا لكلب بدومة الجندل وكان سواع لهذيل وكان يغوث لمراد وكان يعوق لهمذان وكان نسرا لذي الكلاع من حمير وقرئ ودا بفتح الواو وضمها وهما لغتان .
{ وقالوا } أي لهم في أداني{[68786]} المكر الذي حصل منهم{[68787]} .
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً{[68788]} بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح ، أكدوا قولهم : { لا تذرن آلهتكم } أي لا تتركنها {[68789]}على{[68790]} حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة ، وأضافوها إليهم تحسباً فيها ، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً : { ولا تذرن } ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير ، فناسب المقام بذاتهم بقوله : { وداً } وأعادوا النافي{[68791]} تأكيداً فقالوا{[68792]} : { ولا سواعاً * } وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا{[68793]} فيه فقالوا : { ولا يغوث } ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود{[68794]} النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا : { ويعوق ونسراً * } معرى عن{[68795]} التأكيد للعلم بإرادته ، وكان هؤلاء ناساً صالحين ، فلما ماتوا حزن عليهم الناس ثم زين لهم إبليس تصويرهم تشويقاً إلى العمل بطرائقهم الحسنة{[68796]} فصوروهم ، فلما تمادى الزمان زين لهم عبادتهم لتحصيل المنافع الدنيوية ببركاتهم ثم نسي القوم الصالحون ، وجعلوا أصناماً آلهة من دون الله ، وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان{[68797]} فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه{[68798]} ما هو معلوم ، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب ، {[68799]}فكان ود{[68800]} لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير لآل ذي الكلاع ، وقيل غير ذلك - {[68801]}والله أعلم{[68802]} قال البغوي{[68803]} : سواع لهذيل ويغوث لمراد ، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ويعوق لهمذان{[68804]} . قال أبو حيان{[68805]} : قال أبو عثمان النهدي{[68806]} : رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل {[68807]}أجرد ، يسيرون معه لا يهيجونه{[68808]} حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون عليه بناء{[68809]} ، وروي عن ابن عباس{[68810]} رضي الله عنهما في سبب وصول شر تلك الأوثان إلى العرب أنها دفنها الطوفان ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات لثقيف ، والعزى{[68811]} لسليم وغطفان وجشيم ، ومنات بقديد لهذيل ، وإساف ونايلة وهبل لأهل مكة ، وكان إساف حيال الحجر الأسود ، ونايلة حيال الركن اليماني ، وكان هبل في جوف الكعبة - انتهى{[68812]} ، وقال الواقدي : ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، و{[68813]}يغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر - انتهى .
ولا يعارض هذا{[68814]} أنهم صور{[68815]} لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم ، فكأن وداً كان أكملهم في الرجولية ، وكانت سواع امرأة كاملة في العبادة ، وكان يغوث شجاعاً ، ويعوق كان سابقاً قوياً ، وكان نسر عظيماً طويل{[68816]} العمر - والله تعالى أعلم .