والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا . . وهو الجهاد . . وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه :
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) . .
فليس هو مجرد القتال . ولكنه هو القتال في سبيله . والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف . والقتال في ثبات وصمود ( صفا كأنهم بنيان مرصوص ) . .
إن القرآن - كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء - كان يبني أمة . كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس . ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفرادا ويبنيها جماعة ، ويبنيها عملا واقعا . . كلها في آن واحد . . فالمسلم لا يبنى فردا إلا في جماعة . ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط ، وذات نظام ، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها . هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض . وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي .
والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية - ليس دين أفراد منعزلين ، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة . . إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته ، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته . ولم يجئ الإسلام لينعزل هذه العزلة . إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها . ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه . والبشرية لا تعيش أفرادا إنما تعيش جماعات وأمما . والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك . وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا . ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس . وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة . وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله ، ويقوم - فيها - على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس .
ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي - أو جماعة مسلمة - ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وذات التزامات جماعية بين أفرادها ، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها ، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها - في الوقت ذاته - حياة هذه الجماعة . . وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة . بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة . .
{ إن الله يحب الذين يقاتلون . . . } بيان لما هو مرضي عنده تعالى ، بعد بيان ما هو ممقوت عنده . أي أنه تعالى يرضى عن الذين يقاتلوا في سبيل مرضاته تعالى ، صافين أنفسهم في القتال . أو مصفوفين صفوفا متراصة ؛ كأنهم في التحامهم وتماسكهم واتحادهم لنبان محكم ، لا فرجة فيه ولا خلل ، حتى صار شيئا واحدا ؛ وهذا شأن الصادقين في الجهاد . يقال : رصصت البناء – من باب رد – لا أمت بين أجزائه ، وألزقت بعضها ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة ؛ ومنه : التراص للتلاصق .
{ 4 }{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي [ لهم ] أن يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا ، من غير خلل يقع{[1070]} في الصفوف ، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر القتال ، صف أصحابه ، ورتبهم في مواقفهم ، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض ، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها ، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ويحصل الكمال .
الأولى- قوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } أي يصفون صفا : والمفعول مضمر ، أي يصفون أنفسهم صفا . { كأنهم بنيان مرصوص } قال الفراء : مرصوص بالرصاص . وقال المبرد : هو من رصصت البناء إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ، وقيل : هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض . والتراص التلاصق ، ومنه وتراصوا في الصف . ومعنى الآية : يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء . وقال سعيد بن جبير : هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم .
الثانية- وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة . المهدوي : وذلك غير مستقيم ، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة . ولا يخرج الفرسان من معنى الآية ؛ لأن معناه الثبات .
الثالثة- لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو في منفعة تظهر في المقام ، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها . وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين أحدهما : أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو ، وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال . وقال أصحابنا : لا يبرز أحد طالبا لذلك ؛ لأن فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو . وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر ، وعليه درج السلف . وقد مضى القول مستوفى في هذا في " البقرة " عند قوله تعالى :{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة{[14935]} } [ البقرة : 195 ] .
ولما عظم ما يكرهه بعد ما ألهب به من تنزيه غير العاقل ، فكان العاقل جديراً بأن يسأل عما يحبه لينزهه به ، قال {[64835]}ذاكراً الغاية{[64836]} التي هي أم{[64837]} جامعة لكل{[64838]} ما قبلها من المحاسن ، مؤكداً لأن الخطاب مع من قصر أو هو{[64839]} في حكمه : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { يحب } أي يفعل فعل المحب مع { الذين يقاتلون } أي{[64840]} يوقعون القتال { في سبيله } أي بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه إيقاعاً مظروفاً للسبيل ، لا يكون شيء منه كشيء{[64841]} خارج عنه ، فيقاتلون أعداء الدين من الشيطان بالذكر القلبي واللسان ، والإنسان بالسيف والسنان { صفاً } أي مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد .
ولما كان الاصطفاف يصدق مع التقدم والتأخر اليسير نفى ذلك بقوله حالاً بعد حال : { كأنهم } أي من شدة التراص{[64842]} والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في{[64843]} المراكز { بنيان } وزاد في التأكيد بقوله : { مرصوص * } أي عظيم الاتصال شديد الاستحكام كأنما رص بالرصاص فلا فرجة فيه ولا خلل ، فإن من كان هكذا كان جديراً بأن لا يخالف شيء من أفعاله شيئاً من أقواله ، فالرص إشارة إلى اتحاد القلوب والنيات {[64844]}في موالاة{[64845]} الله و{[64846]}معاداة من{[64847]} عاداه المنتج لتسوية الصفوف في الصلاة التي هي محاربة الشيطان ، والحرب {[64848]}التي هي{[64849]} مقارعة حزبه أولى الطغيان ، والأفعال التي هي ثمرات الأبدان .