يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ) . . ويعبر عنها بالهداية تارة : ( وهديناه النجدين ) . . فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد . . والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك . ولكنها لا تخلقها خلقا . لأنها مخلوقة فطرة ، وكائنة طبعا ، وكامنة إلهاما .
قوله تعالى : " فألهمها " أي عرفها ، كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد . أي عرفها طريق الفجور والتقوى ، وقاله ابن عباس . وعن مجاهد أيضا : عرفها الطاعة والمعصية . وعن محمد بن كعب قال : إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا ، ألهمه الخير فعمل به ، وإذا أراد به السوء ، ألهمه الشر فعمل به . وقال الفراء : " فألهمها " قال : عرفها طريق الخير وطريق الشر ، كما قال : " وهديناه النجدين{[16093]} " [ البلد : 10 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : ألهم المؤمن المتقي تقواه ، وألهم الفاجر فجوره . وعن سعيد عن قتادة قال : بين لها فجورها وتقواها . والمعنى متقارب . وروي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فألهمها فجورها وتقواها " قال : [ اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ] . ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية : " فألهمها فجورها وتقواها " رفع صوته بها ، وقال : [ اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وأنت خير من زكاها ] . وفي صحيح مسلم ، عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ، ويكدحون فيه ، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق ، أو فيما يستقبلون{[16094]} مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم . قال فقال : أفلا يكون ظلما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك يده ، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون . فقال لي : يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر{[16095]} عقلك ، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه : أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم . وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال : ( لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم . وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : " ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها " ) . والفجور والتقوى : مصدران في موضع المفعول به .
ولما كان أعجب أمورها الفجور لما غلب سبحانه عليها من الحظوظ والشهوات ، وهي تعلم بما لها من زاجر العقل بصحيح النقل أن الفجور أقبح القبيح ، والتقوى لما أقام عليها من ملك العقل الملكي وغريزة العلم النوراني أحسن الحسن ، وتذوق أن الفجور أشهى شهي ، وأن التقوى أمرّ شيء وأصعبه ، وأثقله وأتعبه ، قال معلماً أن هذا لا يقدر عليه سواه لأنه أعجب من جميع ما مضى لأن البهيمة لا تقدم على ما يضرها وهي تبصر ولو قطعت ، والآدمي يقدم على ما يضره وهو يعلم ويقاتل من منعه منه ، فقال مسبباً عما حذف من جواب القسم : { فألهمها } أي النفس إلهام الفطرة السابقة الأولى قبل
{ ألست بربكم }[ الأعراف : 172 ] { فجورها } أي انبعاثها في الميل مع دواعي الشهوات وعدم الخوف الحامل على خرق سياج الشريعة بسبب ذلك الطبع الذي عدل فيه ذاتها وصفاتها في قسر المتنافرات على التمازج غاية التعديل { وتقواها * } أي خوفها الذي أوجب سكونها وتحرزها بوقايات الشريعة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفجور أولاً دالّ على السكون الذي هو ضده ثانياً ، وذكر التقوى ثانياً دالّ على ضده ، وهو عدم الخوف أولاً ، وإلهامها للأمرين هو جعله لها عارفة بالخير والشر مستعدة ومتهيئة لكل منهما ؛ ثم زاد ذلك بالبيان التام بحيث لم يبق لبس ، فزالت الشبه عقلاً بالغريزة والإلهام ونقلاً بالرسالة والإعلام . ودل بالإضافة على أن ذلك كله منسوب إليها ومكتوب عليها وإن كان بخلقه وتقديره لأنه أودعها قوة وجعل لها اختياراً صالحاً لكل من النجدين ، وأوضح أمر النجدين في الكتب وعلى ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ما وهبه لها من الفطرة القويمة وأخفى عنها سر القضاء والقدرة وعلم العاقبة ، فأقام بذلك عليها الحجة وأوضح المحجة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.