التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا} (8)

وعطف { فألهمها فجورها وتقواها } على { سواها } ، فهو مقسم به ، وفعل « ألهمها » في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة { ما } المصدرية ، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشىء عن التسوية ، فضمير الرفع في « ألهمها » عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من { سواها } ويجوز أن تكون { ما } موصولة صادقة على فعل الله تعالى ، وجملة { بناها } صلة الموصول ، أي والبناءِ الذي بنَى السماء ، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس .

فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإِلهام .

والإِلهام : مصدر ألهم ، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجردَ منه مُمات والإِلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهداً له من كلام العرب .

ويطلق الإِلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية ، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية والنظرية .

وإيثار هذا الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإِنسان ، قال الراغب : الإِلهام : إيقاع الشيء في الرُوع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وَجهة الملأ الأعلى ا ه . ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواجُ أمثال ذلك في اللغة قبل الإِسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب ، وهو مشتق من اللّهْم وهو البلْع دَفعةً ، يقال : لَهِم كفرح ، وأما إطلاق الإِلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية .

والمعنى هنا : أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة ، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره ، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي ، وكل ذلك إلهام .

وتعدية الإِلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية ، فلولا العقول لما تيسّر إفهامُ الإِنسان الفجور والتقوى ، والعقابَ والثواب .

وتقديم الفجور على التقوى مراعىً فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون ، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم ، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ .

ومجيء فعل : « ألهمها » بصيغة الإِسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ { ما } إن جعلتَها موصولة .