نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا} (8)

ولما كان أعجب أمورها الفجور لما غلب سبحانه عليها من الحظوظ والشهوات ، وهي تعلم بما لها من زاجر العقل بصحيح النقل أن الفجور أقبح القبيح ، والتقوى لما أقام عليها من ملك العقل الملكي وغريزة العلم النوراني أحسن الحسن ، وتذوق أن الفجور أشهى شهي ، وأن التقوى أمرّ شيء وأصعبه ، وأثقله وأتعبه ، قال معلماً أن هذا لا يقدر عليه سواه لأنه أعجب من جميع ما مضى لأن البهيمة لا تقدم على ما يضرها وهي تبصر ولو قطعت ، والآدمي يقدم على ما يضره وهو يعلم ويقاتل من منعه منه ، فقال مسبباً عما حذف من جواب القسم : { فألهمها } أي النفس إلهام الفطرة السابقة الأولى قبل

{ ألست بربكم }[ الأعراف : 172 ] { فجورها } أي انبعاثها في الميل مع دواعي الشهوات وعدم الخوف الحامل على خرق سياج الشريعة بسبب ذلك الطبع الذي عدل فيه ذاتها وصفاتها في قسر المتنافرات على التمازج غاية التعديل { وتقواها * } أي خوفها الذي أوجب سكونها وتحرزها بوقايات الشريعة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفجور أولاً دالّ على السكون الذي هو ضده ثانياً ، وذكر التقوى ثانياً دالّ على ضده ، وهو عدم الخوف أولاً ، وإلهامها للأمرين هو جعله لها عارفة بالخير والشر مستعدة ومتهيئة لكل منهما ؛ ثم زاد ذلك بالبيان التام بحيث لم يبق لبس ، فزالت الشبه عقلاً بالغريزة والإلهام ونقلاً بالرسالة والإعلام . ودل بالإضافة على أن ذلك كله منسوب إليها ومكتوب عليها وإن كان بخلقه وتقديره لأنه أودعها قوة وجعل لها اختياراً صالحاً لكل من النجدين ، وأوضح أمر النجدين في الكتب وعلى ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ما وهبه لها من الفطرة القويمة وأخفى عنها سر القضاء والقدرة وعلم العاقبة ، فأقام بذلك عليها الحجة وأوضح المحجة .