هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة . ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة ؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جرا إلى المودة ؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . يوم القيامة يفصل بينكم . والله بما تعملون بصير ) . .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة ؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ) . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها ؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها - كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله - وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه ( يوم القيامة يفصل بينكم ) . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
( والله بما تعملون بصير ) . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لن تنفعكم} يعني لا تغني عنكم {أرحامكم} يعني أقرباءكم {ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم} بالعدل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أرْحامُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ} يقول تعالى ذكره: لا يدعونكم أرحامكم وقراباتكم وأولادكم إلى الكفر بالله، واتخاذ أعدائه أولياء تلقون إليهم بالمودّة، فإنه لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم عند الله يوم القيامة، فتدفع عنكم عذاب الله يومئذ، إن أنتم عصيتموه في الدنيا، وكفرتم به...
{يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} يقول جلّ ثناؤه: يفصل ربكم أيها المؤمنون بينكم يوم القيامة بأن يدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معاصيه والكفر به النار... {واللّهُ بِمَا تَعْمَلونَ بَصِيرٌ} يقول جلّ ثناؤه: والله بأعمالكم أيها الناس ذو علم وبصر، لا يخفى عليه منها شيء، هو بجميعها محيط، وهو مجازيكم بها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، فاتقوا الله في أنفُسكم واحذروه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم} له وجهان:
أحدهما: أن كيف توالون الكفرة لمكان أولادكم وأرحامكم، وهم لا ينفعونكم يوم القيامة؟.
والثاني: أن أرحامكم لا تنفعكم، ولا تشفع لكم يوم القيامة...
أحدهما: أن يفصل بينكم وبين أرحامكم بقوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه} {وأمه وأبيه} [عبس: 34 و 35].
والثاني: أي يفصل بينكم وبين أرحامكم لاختلاف أعمالكم، فنزل كل واحد منكم منزل عمله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} الذين جعلتموهم علة في القاء المودة اليهم والافشاء اليهم بسر النبي (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة، {والله يفصل بينكم} ذلك اليوم ويميز بعضكم عن بعض إذا كانوا كفارا وكنتم مؤمنين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم} أي قراباتكم {وَلاَ أولادكم} الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم، ثم قال: {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وبين أقاربكم وأولادكم {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ...} [عبس: 34] الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً: خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم. يوم القيامة يفصل بينكم. والله بما تعملون بصير).. إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة. يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك... (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم).. التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها -كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله- وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة...
(يوم القيامة يفصل بينكم).. لأن العروة التي تربطكم مقطوعة. وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله. (والله بما تعملون بصير).. مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكشف كتاب الله السر في تحذيره لهذا الفريق من المؤمنين، فقد كانوا لا يزالون متأثرين بروابط القرابة والرحم التي تربطهم بأقربائهم من مشركي مكة، وكانوا يحنون إليهم ما بين الحين والحين، فقال تعالى مخاطبا لهم: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير3}.
ولما كانت عداوتهم معروفة وإنما غطاها محبة القرابات لأن الحب للشيء يعمي ويصم ، فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالاتهم{[64461]} ، زهد فيها مما يرجع إلى حال من والوهم لأجلهم بما تورثه من الشقاء الدائم يوم البعث ، فقال مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال : { لن تنفعكم } أي بوجه من الوجوه{[64462]} { أرحامكم } أي قراباتكم الحاملة لكم على رحمتهم والعطف ، { ولا أولادكم } الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله لأجلهم فينبغي أن لا تعدوا قربهم منكم بوجه أصلاً ، ثم علل ذلك وبينه بقوله : { يوم القيامة } أي القيام الأعظم .
ولما كان النافي للنفع وقوع الفصل لا كونه{[64463]} من فاصل معين قال بانياً للمفعول على قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير وأبي جعفر وابن عامر{[64464]} من أكثر طرقه إلا أن شدد الصاد للمبالغة في الفصل : { يفصل } أي يوقع الفصل وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب { بينكم } أي أيها الناس فيدخل{[64465]} من شاء من أهل طاعته الجنة ، ومن شاء من أهل معصيته النار ، فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء إلا إن كان قد{[64466]} أتى الله بقلب سليم فيأذن الله في إكرامه بذلك .
ولما كان التقدير إعلاماً بأن الله هو الفاصل وهو الضار النافع بما دلت عليه{[64467]} قراءة الباقين إلا أن حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة إشارة إلى عظمة هذا الفصل بخروجه عن المألوف عوداً إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الأمر بانتشار الخلائق وأعمالهم : فاللّه على ذلك قدير ، عطف عليه{[64468]} قوله : { والله } أي الذي له الإحاطة{[64469]} التامة { بما تعملون } أي من كل عمل في كل وقت { بصير * } فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة ، وقد مضى غير مرة أن تقديم الجار في مثل هذا للتنبه على مزيد الاعتناء بعلم ذلك لا على الاختصاص ولا لأجل الفواصل .
قوله : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } يبين الله للمؤمنين أنهم لن تنفعهم قراباتهم ولا أولادهم ولن يغنيهم هؤلاء من الله شيئا ، إن هم - يعني المؤمنين- ضلوا سواء السبيل فوالوا الكافرين وصانعوهم وألقوا إليهم بالمودة .
قوله : { يوم القيامة يفصل بينكم } هذه الجملة مستأنفة . ويوم منصوب على أنه ظرف . يعني يوم القيامة يفرق الله بين عباده . ففريق المؤمنين يصار بهم إلى الجنة ، وفريق المشركين والعصاة يصار بهم إلى النار { والله بما تعملون بصير } الله عليم بأعمالكم ولا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم{[4514]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.