في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِّن وَرَآئِهِمۡ جَهَنَّمُۖ وَلَا يُغۡنِي عَنۡهُم مَّا كَسَبُواْ شَيۡـٔٗا وَلَا مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (10)

وهو عذاب حاضر قريب ؛ وإن كان موعده آتياً بعد حين . ولكنه في حقيقته قائم موجود :

( من ورائهم جهنم ) . .

ولفظ ( من ورائهم )مقصودة ظلاله فوق معناه . وظلاله . . أنهم لا يرونه لأنه من ورائهم ولا يتقونه لأنهم في غفلة عنه ؛ ولا يفوتهم فهم سيقعون فيه !

( ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ) . .

فليس شيء مما عملوا أو ملكوا بنافعهم شيئاً ، فعملهم - ولو صلح - هباء لا يقدرون على شيء منه ، وهو قائم على غير أساس من إيمان . وملكهم زائل لا يصاحبهم منه شيء فيه غناء . وأولياؤهم من دون الله - آلهة أو أعواناً وجنداً أو خلاناً - لا يملكون لهم نصراً ولا شفاعة .

( ولهم عذاب عظيم ) . .

فوق أنه مهين . فجرمهم في الاستهزاء بآيات الله قبيح يقتضي المهانة ، جسيم يقتضي جسامة التعذيب . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مِّن وَرَآئِهِمۡ جَهَنَّمُۖ وَلَا يُغۡنِي عَنۡهُم مَّا كَسَبُواْ شَيۡـٔٗا وَلَا مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: {من ورائهم جهنم}، يعني النضر بن الحارث، يقول: لهم في الدنيا القتل ببدر، ومن بعده أيضا لهم جهنم في الآخرة.

{ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا}: لا تغني عنهم أموالهم التي جمعوها من جهنم شيئا.

{ولا} يغني عنهم من جهنم، {ما اتخذوا من دون الله أولياء}: ما عبدوا من دون الله من الآلهة.

{ولهم عذاب عظيم}، يعني كبير لشدته...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ومن وراء هؤلاء المستهزئين بآيات الله، يعني من بين أيديهم... يقول: من بين أيديهم نار جهنم هم واردوها، ولا يغنيهم ما كسبوا شيئا: يقول: ولا يغني عنهم من عذاب جهنم إذا هم عُذّبوا به ما كسبوا في الدنيا من مال وولد شيئا.

وقوله:"وَلا ما اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلِياءَ" يقول: ولا آلهتهم التي عبدوها من دون الله، ورؤساؤهم، وهم الذين أطاعوهم في الكفر بالله، واتخذوهم نُصراء في الدنيا، تغني عنهم يومئذٍ من عذاب جهنم شيئا.

"ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "يقول: ولهم من الله يومئذٍ عذاب في جهنم عظيم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{من ورائهم جهنم} أضاف جهنم إلى ورائهم؛ يحتمل أن يكون المراد من ذكر {من ورائهم} وراء الدنيا، كأنه قال: من وراء هذه الدنيا لهم جهنم، لكنه أضاف ذلك إليهم لأنهم فيها، وهم أهلها.

ويحتمل من وراء أحوالهم التي هم عليها جهنم.

{ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} يحتمل: {ولا يُغني عنهم ما كسبوا} أي ما عمِلوا من القُرب التي عملوها رجاء أن ينفعهم ذلك في الآخرة، أو يقرّبهم ذلك إلى الله زُلفى؛ يخبر أن ذلك ممّا لا يغنيهم، ولا ينفعهم في الآخرة.

{ولهم عذاب عظيم} وعد لهم في كل حال وكلّ أمر كان منهم عذابا غير العذاب في حال أخرى، ذكر في الحال التي عبدوا الأصنام دونه، واتخذوها أربابًا، العذاب العظيم، وذكر لهم باستهزائهم بآيات الله العذاب المهين: عذابا يُهينهم، ويهانون في ذلك، وذكر لهم بإصرارهم بما هم عليه واستكبارهم على آيات الله وعلى رسوله العذاب الأليم حتى يكون مقابل كل ما كان منهم نوع من العذاب غير النوع الآخر، وذو صفة غير الصفة الأخرى، والله أعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، ومنه قوله عز وجل: {مِّن وَرَائِهِمْ} أي من قدّامهم {مَّا كَسَبُواْ} من الأموال في رحلهم ومتاجرهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بين تعالى كفره بما يسمع من الآيات، أتبعه ما هو أعم منه فقال: {وإذا علم} أي أيّ نوع كان من أسباب العلم {من آياتنا} أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا {شيئاً} وراءه- وكان كلما رأوا الإنسان في غاية التمكن منه، قال مبيناً للعذاب: {جهنم} أي تأخذهم لا محالة وهم في غاية الغفلة عنها بترك الاحتراز منها، ويحسن التعبير بالوراء أن الكلام في الأفاك، وهو انصراف الأمور عن أوجهها إلى أقفائها فهو ماش أبداً إلى ورائه فهو ماش إلى النار بظهره، ويستعمل، "وراء "في الإمام، فيكون حينئذ مجازاً عن الإحاطة أي تأخذهم من الجهة التي هم بها عالمون والجهة التي هم بها جاهلون، فتلقاهم بغاية التجهم والعبوسة والغيظ والكراهة ضد ما كانوا عليه عند العلم- بالآيات المرئية والمسموعة من الاستهزاء الملازم للضحك والتمايل بطراً وأشراً، ومثل ما كانوا عليه عند الملاقاة للمصدقين بتلك الآيات.

ولما كانوا يظهرون الركون إلى ما بأيديهم من الأعراض الفانية، قال: {ولا يغني عنهم} أي في دفع ذلك {ما كسبوا} أي حصلوا من الأمور التي أفادتهم العز الذي أورثهم الاستهزاء {شيئاً} أي من إغناء. ولما كان هؤلاء لما هم عليه من العمى يدعون إغناء آلهتهم عنهم، قال مصرحاً بها: {ولا ما اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم بأخذه مخالفين لما دعتهم إليها فطرهم الأولى السليمة من البعد عنها.

ولما كان كفرهم إنما هو الإشراك، فكانوا يقولون "الله" أيضاً، قال معبراً بما يفهم سفول ما سواه: {من دون الله} أي أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم {أولياء} أي يطمعون في أن يفعلوا معهم ما يفعله القريب من النفع والذب والدفع {ولهم} مع عذابهم بخيبة الأمل {عذاب عظيم} لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولا عضواً من أعضائهم إلا ملأه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لفظ (من ورائهم) مقصودة ظلاله فوق معناه. وظلاله.. أنهم لا يرونه لأنه من ورائهم ولا يتقونه لأنهم في غفلة عنه؛ ولا يفوتهم فهم سيقعون فيه!

(ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء).. فليس شيء مما عملوا أو ملكوا بنافعهم شيئاً، فعملهم -ولو صلح- هباء لا يقدرون على شيء منه وهو قائم على غير أساس من إيمان، وملكهم زائل لا يصاحبهم منه شيء فيه غناء. وأولياؤهم من دون الله -آلهة أو أعواناً وجنداً أو خلاناً- لا يملكون لهم نصراً ولا شفاعة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة {من ورائهم} بيان لجملة {لهم عذاب مهين}، وفي قوله: {من ورائهم} تحقيق لحصول العذاب وكونه قريباً منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدوّ يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمناً، ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة، ومنه قوله تعالى: {وكان وراءهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصباً} [الكهف: 79].

ومن فسر وراء بقُدّام، فما رعَى حق الكلام.

وعطف جملة {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً} على جملة {من ورائهم جهنم}؛ لأن ذلك من جملة العذاب المهين، فإن فقدان الفداء وفقدان الوليّ مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة.

ومعنى الإغناء في قوله: {ولا يغني عنهم} الكفاية والنفع، أي لا ينفعهم.

وعُدي بحرف (عن) لتضمينه معنى يدفع؛ فكأنَّه عُبّر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم، وتقدم في قوله: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} في سورة آل عمران (10).

و {ما كسبوا}: أموالهم، و {شيئاً} منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئاً من الإغناء لأن

{شيئاً} من أسماء الأجناسِ العاليةِ فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده، وتنكيره للتقليل، أي لا يدفع عنهم ولو قليلاً من جهنم، أي عذابها.

{ولا ما اتخذوا} عطف على {ما كسبوا} وأعيد حرف النفي للتأكيد، و {أولياء} مفعول ثان ل

{اتخذوا}، وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير.

وأردف {عذاب مهين} بعطف {ولهم عذاب عظيم} لإفادة أن لهم عذاباً غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر، فالعذاب الذي في قوله: {ولهم عذاب عظيم} غير العذاب الذي في قوله: {أولئك لهم عذاب مهين}.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنّم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم، وهو تعبير مألوف، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر، تركه وراء ظهره، والقرآن الكريم يقول: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً). وقال جمع من المفسّرين أيضاً: إنّ كلمة (وراء) من مادة المواراة، وتقال لكلّ شيء خفي على الإنسان وحجب عنه، سواء كان خلفه ولا يراه، أم أمامه لكنّه بعيد لا يراه، وعلى هذا فإنّ لكلمة (وراء) معنى جامعاً يطلق على مصداقين متضادين. وليس ببعيد إذا قلنا: إنّ التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول، فمثلاً نقول: إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك، أي إنّ تناول الغذاء يكون علة لذلك المرض، وهنا أيضاً تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم المهين...