وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ؛ والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال ؟
وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ؛ وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة ؛ وتفظيع جريمة إزهاق الروح . . ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة . . ذلك كله ضروري كأمن الأفراد . . بل أشد ضرورة ؛ لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ؛ فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ؛ كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء . . وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية . ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء . . فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ؛ ما لم يثب إلى الرشد والصواب . .
فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة :
( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، أن يقتلوا أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . . . ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . .
وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام ؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام . ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقاعليها . سواء خارج المصر أو داخلة . وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه .
وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ؛ المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة [ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ] لا يحاربون الحاكم وحده ، ولا يحاربون الناس وحدهم . إنما هم يحاربون الله ورسوله . حينما يحاربون شريعته ، ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ، ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة . كما أنهم بحربهم لله ورسوله ، وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها ، يسعون في الأرض فسادا . . فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله ، وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة . .
إنهم يحاربون الله ورسوله . . وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم . فهم قطعا لا يحاربون الله - سبحانه - بالسيف ، وقد لا يحاربون شخص رسول الله - بعد اختياره الرفيق الأعلى - ولكن الحرب لله ورسوله متحققة ، بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله .
كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة ، هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله ، في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله . . وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة ، في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف . .
نقرر هذا بوضوح ، لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان ، كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة ، ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم ، ولو زعموا أنهم مسلمون . . كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ؛ بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله . .
إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام ، أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله . . وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله ؟ إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ؛ فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه ؟ !
. . إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة ، التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ؛ وتروع عباد الله في دار الإسلام ، وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم . . أن يقتلوا تقتيلا عاديا . أو أن يصلبوا حتى يموتوا [ وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب ] أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى . . من خلاف . .
ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص : إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات ، أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين .
ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت . فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع ، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي :
وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه ، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف . وأما إذا أخاف السبيل فقط ، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه . . ومعنى التخيير عندمالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام . فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه ، لأن القطع لا يدفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف . وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير .
ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه ، وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل . لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة ، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ؛ ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار . وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام .
كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض . . هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته ؟ أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه . أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ؟
ونحن نختار النفي من أرض الجريمة ، إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ؛ جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم . حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته ، أو بعزله عن عصابته !
( ذلك لهم خزي في الدنيا . . ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .
فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى . وهذا كذلك تغليظ للعقوبة ، وتبشيع للجريمة . . ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة . وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة . فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره . . وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به . .
348-... قال مالك: نزلت، فيمن خرج من المسلمين، يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد.
- ابن جرير: حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لمالك ابن أنس: تكون محاربة في المصر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر، أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم، ولا ذحل ولا عداوة قاطعا السبيل والطريق والديار مخيفا بسلاحه فقتل أحدا منهم، قتله الإمام كقتله المحارب ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود. 350- ابن جرير: قال علي: قال الوليد: وأخبرني مالك أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغيلة؟ قال: هو الرجل يخدع الرجل والصبي. فيدخله بيتا أو يخلو به فيقتله، ويأخذ ماله، فالإمام ولي قتل هذا، وليس لولي الدم، والجرح قود ولا قصاص.
- ابن العربي: قال ابن وهب: قال مالك: المحارب الذي يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان، ويظهر الفساد في الأرض، وإن لم يقتل أحدا، إذا ظهر عليه يقتل، وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي، قال مالك: والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته سواء، وإن استخفى بذلك، وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف فقطع السبيل أو قتل، فذلك إلى الإمام، يجتهد أي هذه الخصال شاء. قوله تعالى: {أو يصلبوا} [المائدة: 33].
- ابن العربي: قال مالك: يصلب حيا ثم يقتل، أن ذلك أنكى وأشد ردعا. قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33].
- ابن وهب: قال: وسمعت مالكا يقول في قول الله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} قال النفي في ذلك أن ينفيه السلطان من بلده ذلك إلى بلد آخر، ثم لا يتركه يرجع إلى بلده حتى يعرف منه التوبة وحسن الحال.
- مكي: قال مالك: ينفى من البلد الذي أحدث فيه ذلك إلى غيره ويحبس. 355- ابن العربي: قال مالك: يخير الإمام في المحارب بمجرد خروجه. لأن أصلها ذلك...
عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا هربوا طلبوا حتى يوجدوا، فتقام عليهم الحدود، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض. قال الشافعي: وبهذا نقول، وهو موافق معنى كتاب الله تبارك وتعالى. وذلك أن الحدود إنما نزلت فيمن أسلم، فأما أهل الشرك فلا حدود فيهم إلا القتل، أو السباء، والجزية، واختلاف حدودهم باختلاف أفعالهم على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما إن شاء الله تعالى. {اِلا اَلذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فمن تاب قبل أن يقدر عليه سقط حق الله عنه، وأخذ بحقوق بني آدم. ولا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قيمة ربع دينار فصاعدا. قياسا على السنة في السارق. (الأم: 6/151-152. ون أحكام الشافعي: 1/313-314.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا بيان من الله عزّ ذكره عن حكم الفساد في الأرض الذي ذكره في قوله: "مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ"، أعلم عباده ما الذي يستحقّ المفسد في الأرض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتل والصلب وقطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض، خزيا لهم، وأما في الاَخرة إن لم يتب في الدنيا فعذاب عظيم.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؛
فقال بعضهم: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فعرّف الله نبيه صلى الله عليه وسلم الحكم فيها. عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تَحْرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يُقَدَر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الذي أصاب.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن: إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال: نزلت في أهل الشرك.
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عُرَينة وعُكْل ارتدّوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله.
عن أنس: أن رهطا من عُكل وعرينة أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله أنا أهل ضَرْع ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة. فأمر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بَذوْد وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتِيَ بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرّة حتى ماتوا. فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: "إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ".
قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة وناس من بجيلة.
وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القصص التي قصها الله جلّ وعزّ قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسطا منه يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم أولى وأحقّ. وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو سَعَى بفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون، يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلو النفوس بغير نفس وسعي في الأرض بالفساد حربا لله ولرسوله، فمن فعل ذلك منهم يامحمد، فإنما جزاؤهم أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟ قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعَى في الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد، والذين عُنُوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلاً في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه.
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في العُرَنيين؛ فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية، أعني بقوله: "إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ في الأرْضِ فَسادا..."، وقالوا: أنزلت هذه الآية عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين.
وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعرنيين حكم ثابت في نظرائهم أبدا، لم يُنْسخ ولم يبدّل. وقوله: "إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ..."، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الأرض فسادا بالحِرَابة. قالوا: والعرنيون ارتدوا وقتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارِب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام والذمة.
وقال آخرون: لم يَسْمُلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنزل الله جلّ وعزّ هذه الآية على نبيه يعرّفه الحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم...
واختلف أهل العلم في المستحقّ اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه؛ فقال بعضهم: هو اللصّ الذي يقطع الطريق.
وقال آخرون: هو اللصّ المجاهر بلصوصيته، المكابر في المصر وغيره. وقال آخرون: المحارب: هو قاطع الطريق، فأما المكابر في الأمصار فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حَرَابة.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم مناصب حربا ظلما. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم أو في سبلهم وطرقهم في أنه لله ولرسوله محارب بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه.
"وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا": يعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين به، أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم، وأخذ أموالهم ظلما وعدوانا، والتوثّب على حُرَمهم فجورا وفسوقا.
"أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ": ما للذي حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جلّ ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال، أتلزم المحارب باستحقاقه اسم المحاربة، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه مختلفا باختلاف أجرامه؟ فقال بعضهم: يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه، مختلفا باختلاف أجرامه. عن ابن عباس، قال: إذا حار ب فقَتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقَتَل، فعليه الصلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتُل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النفي.
عن قتادة، أنه كان يقول: حدود أربعة أنزلها الله؛ فأما من أصاب الدم والمال جميعا: صُلب. وأما من أصاب الدم وكفّ عن المال؛ قُتل. ومن أصاب المال وكفّ عن الدم؛ قُطِع. ومن لم يصب شيئا من هذا: نُفي...
واعتلّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجب على القاتل القود، وعلى السارق القطع وقالوا: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحلّ دَمُ أمرئ مُسْلِمِ إلاّ بإحْدَى ثَلاثِ خِلالٍ: رَجُلٍ قَتَلَ فَقُتلَ، وَرَجُلٍ زَنى بَعْدَ إحْصَانٍ فَرُجمَ، وَرَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلامهِ» قالوا: فحظر النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث، فإما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالاً، فذلك تقدّمٌ على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال: الإمام فيه بالخيار إذا قَتَل وأخاف السبيل وأخذ المال فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل أو القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم.
وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار أن يفعل أيّ هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه. واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التي ب"أو "في القرآن بمعنى التخيير في كلّ ما أوجب الله به فرضا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين: "فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ"، وكقوله: "فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ"، وكقوله: "فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ منْكُمْ هَدْيا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّارَةُ طَعامِ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما". قالوا: فإذا كانت العطوف التي ب"أو "في القرآن في كلّ ما أوجب الله به فرضا منها في سائر القرآن بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم، فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قُدِر عليه قبل التوبة وقبل أخذ مال أو قتل: النفي من الأرض وإذا قُدِر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرّم قتلها: الصلب لما ذكرت من العلة قبل لقائي هذه المقالة. فأما ما اعتلّ به القائلون: إن الإمام فيه بالخيار من أن «أو» في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فنقول: لا معنى له، لأن «أو» في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله. فأما في هذا الموضع فإن معناها: التعقيب، وذلك نظير قول القائل: إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في عليين، أو يسكنهم مع الأنبياء والصدّيقين. فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كلّ مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه، بل المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لم يخلو عند الله من بعض هذه المنازل، فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، وكلّ في الجنة كما قال جلّ ثناؤه: "جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها". فكذلك معنى المعطوف ب"أو" في قوله: "إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ..."، إنما هو التعقيب. فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله، ويسعى في الأرض فسادا، لن يخلو من أن يستحقّ الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عزّ ذكره، لا أن الإمام محكّم فيه، ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خَفّت، لأن ذلك لو كان كذلك لكان للإمام قتل من شَهَر السلاح مخيفا السبيل وصلبه، وإن لم يأخذ مالاً ولا قتل أحدا، وكان له نفي من قَتل وأخذ المال وأخاف السبيل. وذلك قول إن قاله قائل خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا يَحلّ دَمُ امْرِئ مُسْلمٍ إلاّ بإحْدَى ثَلاثٍ: "رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً فَقُتِلَ، أوْ زَنى بَعْدَ إحْصَانٍ فرُجِمَ، أوِ ارْتَدّ عَنْ دِينِهِ» وخلاف قوله: «القَطْعُ فِي رُبْعِ دِينار فَصَاعِدا» وغير المعروف من أحكامه.
فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرت كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به؟ قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه، فإن ادّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكما خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميع أهل العلم، لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة، وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب. قيل له: فإن أحسن حالاتك أن يُسلّم لك أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت، وما قاله من خالفك، فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟ وبعد: فإذا كان الإمام مخيرا في الحكم على المحارب من أجل أنّ «أو» بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيا ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله؟ فإن قال: ذلك له، خالف في ذلك الأمة، وإن زعم أن ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه أو صلبه ثم قتله، ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن «أو» تأتي بمعنى التخيير، وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟ وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت وأبى ذلك حيث جعلته حيث جعلته له، فرقٌ من أصل أو قياس؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلاّ ألزم في الاَخر مثله...
"أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنَ خِلافٍ": تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم، وذلك أن تقطع أيمن أيديهم وأشمل أرجلهم، فذلك الخلاف بينهما في القطع. ولو كان مكان «من» في هذا الموضع «على» أو الباء، فقيل: أو تقطع أيديهم وأرجلهم خلاف أو بخلاف، لأدّيا عما أدت عنه «مِن» من المعنى.
واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: هو أن يُطلب حتى يُقدر عليه، أو يهرب من دار الإسلام. عن السديّ، قوله: "أوْ يُنْفَوْا منَ الأرْضِ" قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم، فيقيم فيهم الحكم، أو يُنفوا من أرض المسلمين... عن ابن عباس: "أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ" يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب... عن الزهري: قال: نفيه: أن يطلب فلا يقدر عليه، كلما سمع به في أرض طلب.
وقال آخرون: معنى النفي في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها...
وقال آخرون: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: الحبس. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب في قول من قال: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه.
وإنما قلت ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن الله جلّ ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتل أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه، كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الأرض، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال، بمعنى إقامة الحدّ عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عزّ وجلّ حدّا له بعد القدرة عليه. وإذ كان كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلاّ الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن. فإذ كان كذلك، فلا شكّ أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض، كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلاّ بحبسه في بقعة منها عن سائرها، فيكون منفيا حينئذٍ عن جميعها، إلاّ مما لا سبيل إلى نفيه منه. وأما معنى النفي في كلام العرب: فهو الطرد، ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كلّ شيء: النّفاية. وأما المصدر من نفيت، فإنه النفي والنّفاية... "ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيا ولهمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
"ذَلِكَ": هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا في الدنيا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف "لَهُمْ": لهؤلاء المحاربين "خِزْيٌ في الدّنْيَا": هو لهم شرّ وعار وذلة، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
"وَلَهُمْ في الاَخرةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" يقول عزّ ذكره لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا "في الآخرة" مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها عذاب عظيم، يعني: عذاب جهنم.
{يحاربون الله} هو مجازٌ ليس بحقيقة؛ لأن الله يستحيل أن يُحَارَبَ؛ وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أنه سمَّى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه، فسُمُّوا محاربين تشبيهاً لهم بالمحاربين من الناس،... فكذلك قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} يحتمل أن يكونوا سُمُّوا بذلك تشبيهاً بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس. وخُصَّت هذه الفرقة بهذه السِّمَةِ لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح، ولم يُسَمَّ بذلك كل عاصٍ لله تعالى، إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار السلاح، ولم يُسَمَّ بذلك كل عاصٍ لله تعالى، إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المغالبة في أخذ الأموال وقطع الطريق. ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله،... وقد يصحّ إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عَظُمَتْ جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة، والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رأى معاذاً يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اليَسِيرُ مِنَ الرِّياءِ شِرْكٌ، مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّه فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بالمُحَارَبَةِ"، فأطلق عليه اسم المحاربة، ولم يذكر الردّة؛ ومن حارب مسلماً على أخذ ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محاربٌ لله تعالى بذلك... فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز وجل ولرسوله. ويدلّ عليه أيضاً ما رَوَى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس: أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وسَعَى في الأرض فساداً وتاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه، فكتب عليّ رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة: "إن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه، فلا تعرضنّ له إلاّ بخير"، فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتدّ وإنما قطع الطريق. فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليلٌ على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفاراً ولا مشركين، مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردّة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملّة...
ويدل على أن المراد به قُطّاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها. وأيضاً فإن الإسلام لا يُسْقِطُ الحدَّ عمن وجب عليه، فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحدّ عنهم. وأيضاً فإن المرتد يستحقّ القتل بنفس الرِّدّة دون المحاربة، والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة، فعلمنا أنه لم يُرِدِ المرتدَّ. وأيضاً ذكر فيه نفي من لم يَتُبْ قبل القدرة عليه، والمرتد لا يُنْفَى، فعلمنا أن حكم الآية جارٍ في أهل الملّة. وأيضاً فإنه لا خلاف أن أحداً لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر، وإن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عُرِض عليه الإسلام فإن أسلم وإلاّ قتل ولا تقطع يده ولا رجله. وأيضاً فإن الآية أوْجَبَتْ قَطْعَ يَدِ المحارب ورجله ولم توجب معه شيئاً آخر، ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تُقطع يده ورجله ويُخْلَى سبيله بل يقتل إن لم يُسْلِم، والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره. وأيضاً ليس من حكم المرتدين الصلب، فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وقال في المحاربين: {إلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أنّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فشرط في زوال الحدّ عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم، وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها. فلما عُلم أنه لم يُرِدْ بالمحاربين أهْلَ الردة، فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالّة على بطلان قول من ادّعَى خصوص الآية في المرتدين...
{ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} يدل على أن إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه لأخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يحاربون الله} تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة، وقيل التقدير يحاربون عباد الله، ففي الكلام حذف مضاف، وقوله تعالى: {ويسعون في الأرض فساداً} تبيين للحرابة أي: ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فساداً منضافاً إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة، وقرأ الجمهور «يقتّلوا، ُيصلّبوا، ُتقطّع» بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل {يذبّحون} وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا، ويصلبوا، تقطع» بالتخفيف في الأفعال الثلاثة، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حياً ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقى العقب. {أو ينفوا من الأرض} والظاهر أن "الأرض "في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحاً، وهذا هو صريح مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح.
{ذلك لهم الخزي} إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذاباً عظيماً مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، «فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو له كفارة».
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة، أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعد وعظم الذنب، والخزي في هذه الآية: الفضيحة والذل والمقت.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ظَاهِرُهَا مُحَالٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ وَلَا يُشَاقُّ وَلَا يُحَادُّ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ عَلَيْهِ من صِفَاتِ الْجَلَالِ، وَعُمُومِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى الْكَمَالِ، وَمَا وَجَبَ لَهُ من التَّنَزُّهِ عَنْ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْمُتَحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ وَفَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ. وَالْجِهَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ من الْمُفَسِّرِينَ لِمَا وَجَبَ من حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمَجَازِ: مَعْنَاهُ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ؛ وَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ سُبْحَانَهُ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ، قَوْله تَعَالَى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ}: فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ. الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ.. أَمَّا مَنْ قَالَ: لِأَنَّ {أَوْ} عَلَى التَّخْيِيرِ فَهُوَ أَصْلُهَا وَمَوْرِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لِلتَّفْصِيلِ فَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ}: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يُسْجَنُ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْجِنَايَةِ. الثَّانِي: يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ؛ قَالَهُ أَنَسٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. الثَّالِثُ: يُخْرَجُونَ من مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ أَبَدًا؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. الرَّابِعُ: يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ. وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ نَفْيًا من الْأَرْضِ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ عَلَى الْفَتْكِ. وَأَمَّا نَفْيُهُ من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ يَهْرُبُ من الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قِلابة -واسمه عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري- عن أنس بن مالك: أن نفرًا من عُكْل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض وسَقَمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟" فقالوا: بلى. فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فَصَحُّوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأُدْرِكُوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اختلف نقلة التفسير المأثور فيمن نزل فيهم هاتان الآيتان، على ما هو ظاهر من اتصالهما بما قبلهما أتم الاتصال. روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. زاد البخاري: أن قتادة الراوي للحديث عن أنس قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود قال قتادة فحدثني ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود (أي في الآية التي نحن بصدد تفسيرها) وروى أبو داود والنسائي عن أبي الزناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله في ذلك فأنزل {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا} الآية. وفي القصة روايات أخرى مفصلة. ومنها أنه أباح لهم إبل الصدقة كلها في غدوها ورواحها.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في المشركين منهم، من تاب قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه، ولم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. (ومثله عند ابن جرير عن الحسن) وروى ابن جرير والطبراني في الكبير عن ابن عباس أيضا أنه قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف، وفي بعض الروايات زيادة إلا من أسلم قبل أن يؤخذ. وروى ابن جرير أيضا ما تقدم من كون الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على سمل أعين العرنيين وقطع أيديهم وتركها بدون حسم فكانت الآية تحريما للمثلة عند هؤلاء. على أنه ثبت أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن المثلة قبل نزول المائدة. وروي عن آخرين أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أمر بسمل أعينهم وقطعهم كما فعلوا بالراعي المسلم – وفي بعض الروايات الرعاة بالجمع – فنزلت الآية فترك ذلك ولم يفعله.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم إنه خاص بمثل من نزلت فيهم من الكفار مطلقا؟ أو الذين غدوا من اليهود، أو الذين خدعوا النبي والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم. وذهب أكثر الفقهاء إلى أنها خاصة بمن يفعلون هذه الأفعال من المسلمين، وكأنهم اعتدّوا بما أظهره العرنيون من الإسلام. ورووا عدة روايات في تطبيق الآية على الخوارج، بل قالوا إنها نزلت فيهم.
والظاهر المتبادر بصرف النظر عن الروايات المتعارضة أنها عامة لكل من يفعل هذه الأفعال في دار الإسلام إذا قدرنا عليهم وهم متلبسون بها بالفعل أو الاستعداد. وقد قال الذين جعلوها خاصة بالمسلمين: إن أحكام الكفار في الحرب معروفة بالنصوص والعمل، وليس فيها هذه الدرجات في العقاب. وجوابه أن هذا العقاب خاص بمن فعل مثل أفعال العرنيين، فلا يقتضي ذلك أن يتبع في حرب كل من حاربنا من الكفار. وقال بعضهم: إن استثناء من تابوا قبل القدرة عليهم دليل على إرادة المسلمين، لأن الكفار لا يشترط في توبتهم أن تكون قبل القدرة عليهم. ويجاب عن هذا بأن التوبة من هذا الإفساد هي التي يشترط فيها أن تكون قبل القدرة عليهم، لا التوبة من الكفر.
ومجموع الروايات في قصة العرنيين تفيد أنهم جعلوا الإسلام خديعة للسلب والنهب، وأنهم سملوا أعين الرعاة ثم قتلوهم ومثلوا بهم، وفي بعضها أنهم اعتدوا على الأعراض أيضا وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاقبهم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] وقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله} [البقرة:194] إن صح أن الآية نزلت بعد عقابهم. ولم يعف عنهم كعادته لئلا يتجرأ على مثل فعلتهم أمثالهم من أعراب المشركين وغيرهم، فأراد بذلك القصاص وسد الذريعة، وأن الله تعالى أنزل الآية بهذا التشديد في العقاب على مثل هذا الإفساد، لهذه الحكمة، وهي سد ذريعة هذه المفسدة، ولكنه حرم مع ذلك كله المثلة، وهي تشويه الأعضاء. ولا مفسدة أشد وأقبح من سلب الأمن على الأنفس والأعراض والأموال الناطقة والصامتة. فرب عصبة من المفسدين تسلب الأمان والاطمئنان من أهل ولاية كبيرة. ورب عصبة مفسدة تعاقب بهذه العقوبات المنصوصة في الآية فتطهر الأرض من أمثالها زمنا طويلا.
والتشديد في سد الذرائع ركن من أركان السياسة لا تزال جميع الدول تحافظ عليه، حتى أن بعضهم يحكم الوهم فيه... {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر محصور فيما يذكر بعده من العقوبات على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم، لكل منها ما يليق بها من العقوبة. والمحاربة مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم. والسلم السلام أي السلامة من الأذى والضرر والآفات، والأمن على النفس والمال. والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال. لسان العرب: الحرب بالتحريك أن يسلب الرجل ماله، حربه يحربه (بوزن طلب. وكذا بوزن تعب) إذا أخذ ماله، فهو محروب وحريب، من قوم حربى وحرباء. ثم قال حريبة الرجل ماله الذي يعيش به، اه فأنت ترى أن الحرب والمحاربة، ليس مرادفا للقتل والمقاتلة. وإنما الأصل فيها الاعتداء والسلب وإزالة الأمن. وقد يكون ذلك بقتل وقتال وبدونهما. وقد ذكر القتل والقتال في القرآن في أكثر من مئة آية. وأما المحاربة فلم تذكر إلا في هذه وفي قوله تعالى في بيان علة بناء المنافقين لمسجد الضرار {وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل} [التوبة: 107]. قال رواة التفسير المأثور: أي وترقبا وانتظارا للذي حارب الله ورسوله من قبل بناء هذا المسجد، وهو أبو عامر الراهب، فإنه كان شديد العداوة للإسلام ووعد المنافقين بأن يذهب ويأتيهم بجنود من عند قيصر للإيقاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. فمحاربة هذا الراهب من قبل كانت بإثارة الفتن لا بالقتال والنزال. وأما لفظ (الحرب) فقد ذكر في أربعة مواضع من أربع سور. منها إعلام المصرّين على الربا بأنهم في حرب لله ورسوله بأكلهم أموال الناس بالباطل. والباقي بالمعنى المشهور، وهو ضد السلم وكان أهل البوادي – ولا يزالون – يغزو بعضهم بعضا لأجل السلب والنهب. وقد جعل الفقهاء كتاب المحاربة – ويقولون الحرابة أيضا – غير كتاب الجهاد والقتال. وجعلوا الأصل فيها هاتين الآتين. وعرفوها بأنها إشهار السلاح وقطع السبيل، واشترط بعضهم كالشافعي أن يكون ذلك من أهل الشوكة. (كالذين يؤلفون العصابات المسلحة للسلب والنهب وقتل من يعارضهم، أو لمقاومة السلطة ابتغاء الفتنة والفساد) واشترطوا فيها شروطا سنشير إلى المهم منها.
أما كون هذا النوع من العدوان محاربة لله ورسوله فلأنه اعتداء على شريعة السلام والأمان، والحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله، فمحاربة الله ورسوله هي عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق، كما قال تعالى في المصرين على أكل الربا {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279] وليس معناه محاربة المسلمين، كما قال بعض المفسرين. فمن لم يذعنوا للشرع فيما يخاطبهم به في دار الإسلام يعدون محاربين الله ورسوله عليه السلام، فيجب على الإمام، الذي يقيم العدل ويحفظ النظام، أن يقتلهم على ذلك (كما فعل الصديق رضي الله عنه بمانعي الزكاة) حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكف عنه. ولكن إذا امتنعوا على إمام العدل المقيم للشريعة، وعثوا إفسادا في الأرض، كان جزاؤهم ما بينه الله في هذه الآية. فقوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} متمم لما قبله، أي يسعون فيها سعي فساد، أو مفسدين في سعيهم لما صلح من أمور الناس، في نظام الاجتماع وأسباب المعاش.
والفساد ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به الصالح نافعا يقال إنه قد فسد. ومن عمل عملا كان سببا لفساد شيء من الأشياء يقال إنه أفسده، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض، ومعارضة تنفيذ الشريعة العادلة وإقامتها – كل ذلك إفساد في الأرض. روى عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا الزنا والسرقة وقتل الناس وإهلاك الحرث والنسل. وكل هذه الأعمال من الفساد في الأرض، واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبة في الشريعة غير ما في الآية، فللزنا والسرقة والقتل حدود، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل، ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده. وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين، الذين يكاثرون أولي الأمر، ولا يذعنون لحكم الشرع، وتلك الحدود إنما هي للسارقين الزناة أفرادا، الخاضعين لحكم الشرع فعلا، وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم فاعل مفرد كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] وهم يستخفون بأفعالهم، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم، ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة. فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربون الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفين معا. وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين. لأن الوصفين متلازمان.
ولا تتحقق محاربة الله ورسوله، بمحاربة الشرع ومقاومة تنفيذه، وإفساد النظام على أهله، إلا في دار الإسلام، وللكفار في دار الحرب أحكام أخرى كما قال الفقهاء، وأحكامهم تذكر في كتاب المحاربة أو الحرابة كما تقدم. وقد فطن لهذا المعنى بعضهم ولم يتضح له تمام الاتضاح، فاشترط أن يكون إفسادهم في دار الإسلام، ولا فصل حينئذ فيهم بين أن يكونوا مسلمين أو ذميين أو معاهدين أو حربيين كل من قدرنا عليه منهم نحكم بينهم بهذه الآية.
وقد اختلف الفقهاء في تعريف المحاربين فروى ابن جرير وغيره عن مالك بن أنس أنه قال: المحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء، فكان ذلك منه على غير ثائرة كانت بينهم ولا دخل ولا عداوة، قاطعا للسبيل والطريق والديار، مختفيا لهم بسلاحه. وذكر أن من قتل منهم قتله الإمام، ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود.
وقال ابن المنذر: اختلفت الرواية في مسألة إثبات المحاربة في المصر عن مالك فأثبتها مرة ونفاها أخرى. نقول: والصواب الإثبات لأنه المعروف في كتب مذهبه، وإنما اشترط انتفاء العداوة وغيرها من الأسباب ليتحقق كون ذلك محاربة للشرع، ومقاومة للسلطة التي تنفذه. وفي حاشية المقنع من كتب الحنابلة تلخيص لمذاهب الفقهاء في ذلك هذا نصه:
(يشترط في المحاربين ثلاثة شروط:
- أن يكون معهم سلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا محاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم. ولا نعلم في هذا خلافا. فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون، وهو المذهب، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين.
- أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين في قول الخرقي، وجزم به في الوجيز، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق، لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولأن في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين. والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه. وقال أبو بكر: حكمهم في المصر والصحراء واحد. وهو المذهب. وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور: لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأنه في المصر أعظم ضررا فكان أولى.
- أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا، فأما إن أخذوا مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا، لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة. وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق) اه.
قال بعض المفسرين المستقلين بالفهم: إن أكثر الشروط التي اشترطها الفقهاء في هذا الباب لا يوجد لها أصل في الكتاب ولا في السنة. ونحن نقول: إن الآية تدل دلالة صريحة على أن هذا العقاب خاص بمن يفسدون الأرض، بالسلب والنهب أو القتل، أو إهلاك الحرث والنسل، ومثل ذلك أو منه الاعتداء على الأعراض، إذا كانوا محاربين لله ورسوله، بقوة يمتنعون بها من الإذعان والخضوع لشرعه، ولا يتأتى ذلك إلا حيث يقام شرعه العادل من دار الإسلام. فمن اشترط حملهم السلاح أخذ شرطه من كون القوة السلاح. وهو لو قيل له أنه يوجد أو سيوجد مواد تفعل في الإفساد والإعدام وتخريب الدور، وكذا في الحماية والمقاومة أشد مما يفعل السلاح (كالدينامت المعروف الآن) ألا تراه في حكم السلاح؟ يقول: بلى. ومن اشترط خارج المصر، راعى الأغلب، أو أخذ من حال زمنه أن المصر لا يكون فيه ذلك. وما اشترط أحد شرطا غير صحيح أو غير مطرد إلا وله وجه انتزعه منه.
أما ذلك الجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين بالقوة فهو {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} التقتيل هو التكثير أو التكرير أو المبالغة في القتل، فأما معنى التكرار أو التكثير فلا يظهر إلا باعتبار الأفراد، كأنه يقول: كلما ظفرتم بمن يستحق القتل منهم فاقتلوه. وأما المبالغة فتظهر بكون القتل حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم، وقد صرح بعض الفقهاء بأن المحاربين المفسدين إذا قدرنا على القاتل منهم نقتله إن عفا ولي الدم أو رضي بالدية. والتصليب التكرار أو المبالغة في الصلب، فيقال فيه ما قيل في التقتيل. ويمكن تكرار صلب الواحد على قول من قال: إن الصلب يكون بعد القتل لأجل العبرة، فيصلب المجرم في النهار وتحتفظ جثته ليلا، ثم يصلب في النهار قال الشافعي يصلب بعد القتل ثلاثة أيام. والظاهر أنهم يصلبون أحياء ليموتوا بالصلب كما قال الجمهور، وإلا لم يكن الصلب عقوبة ثانية. وأصل معنى الصلب (بالتحريك) والصليب في اللغة الودك (الدهن) أو ودك العظام التي يعد صلب الظهر جذع شجرتها، والصديد الذي يخرج من بدن الميت. قال في اللسان: والصلب مصدر يصلبه (بكسر اللام) صلبا، وأصله من الصليب وهو الودك أو الصديد...
. والصلب هذه القتلة المعروفة مشتق من ذلك، وقد صلبه يصلبه صلبا، شدد للتكثير... والصليب المصلوب اه ويعني بالقتلة المعروفة أن يربط الشخص على خشبة أو نحوها منتصب القامة ممدود اليدين حتى يموت. وكانوا يطعنون المصلوب ليعجلوا موته. والشكل الذي يشبه المصلوب يسمى صليبا.
وأما تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، فمعناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. وفي هذا نوع من التكرار فصيغة التفعيل فيه أظهر مما قبله. وما قطع من يد أو رجل يحسم في الحال كما جرى عليه العمل. والحسم كي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت وهو يغلي ليكيلا يستنزف الدم ويموت صاحبه. وفي معنى الحسم كل علاج يحصل به المراد، وربما كان الأفضل ما كان أسرع تأثيرا وأقل إيلاما وأسلم عاقبة، عملا بحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) 366 رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس.
وأما النفي من الأرض فيحتمل لفظ الآية فيه أن يكون عقوبة معطوفة على ما قبلها. وأن يكون (أو) بمعنى (إلا أن) أي جزاؤهم ما ذكر قبل إلا أن ينفوا من الأرض بالمطاردة ويخرجوا من دار الإسلام إلى الحرب التي لا حكم ولا سلطان للإسلام فيها. وهذا قول ابن عباس رواه ابن جرير عنه وعن السدي. وعن الليث بن سعد ومالك بن أنس أنهم يطلبون حتى يؤخذوا أو يضطرهم الطلب إلى دار الكفر والحرب إذا كانوا مرتدين. وأن المسلم لا يضطر إلى الدخول في دار الكفر. والمعنى على القول الأول المختار أن ينفى المحاربون من بلدهم أو قطرهم الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الكفر، لأن لفظ الأرض في الآية يحتمل أن يكون التعريف فيه لبلاد الإسلام، وأن يكون لما وقع فيه الفساد منها.
وحكمة نفيهم إلى غير تلك الأرض وراء كون النفي عقابا ظاهرة، وهي أن بقاءهم في الأرض التي أفسدوا فيها يذكرهم ويذكر أهلها دائما بما كان منهم، وهي ذكرى سيئة قد تعقب ما لا خير فيه. وروى ابن جرير هذا التفسير للنفي عن سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز. وقيل: ينفى إلى بلد آخر فيسجن فيه إلى أن يظهر توبته، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: إن النفي هو السجن وهو مذهب أبي حنيفة، وهو أغرب الأقوال. فالحبس عقوبة غير عقوبة النفي والإخراج من الأرض تحتاج إلى دليل. والمقام مقام بيان حدود الله لا التعزير المفوض إلى أولي الأمر. وقد ورد ذكر العقوبتين في بيان الله تعالى لنبيه ما كان يكيد له المشركون بمكة، وذلك قوله تعالى في الأنفال: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30] روى أصحاب التفسير المأثور أن عمه أبا طالب سأله: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال صلى الله عليه آله وسلم: (يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني).
هذه أربع عقوبات للمحاربين المفسدين في الأرض، اختلف علماء السلف في كيفية تنفيذها فقال بعضهم: هي للتخيير، فللإمام أن يحكم على من شاء من المحاربين المفسدين عند التمكن منهم بما شاء منها، وقال الجمهور: إنها لتفصيل أنواع العقاب لا للتخيير، جعل الله لهذا الإفساد درجات من العقاب لأن إفسادهم متفاوت، منه القتل ومنه السلب ومنه هتك الأعراض، ومنه إهلاك الحرث والنسل – أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب – ومنهم من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد. فليس الإمام مخيرا في معاقبة من شاء منهم بما شاء منها، بل عليه أن يعاقب كلا بقدر جرمه ودرجة إفساده. ثم اختلفوا في تقدير هذه العقوبات بقدر الجرائم اختلافا كثيرا، وجاءوا فيه بفروع كثيرة ترجع إلى الرأي والاجتهاد في التقدير ومراعاة ما ورد من الحدود على بعض هذه الأعمال، كقتل القاتل، وقطع آخذ المال لأنه كالسارق، والجمع بين القتل والصلب، لمن جمع بين القتل والسلب، والنفي لمن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا. وقد روي هذا عن ابن عباس وبعض علماء التابعين.
وأنت ترى أن الآية لا تدل عليه ولا تنفيه، فهو اجتهاد حسن في كيفية العمل بها، ولكنه غير كاف لأن للمفسدين في الأرض بالقوة أعمالا أخرى أشرنا إلى أمهاتها آنفا. فإذا قامت عصبة مسلحة من الأشقياء بخطف العذارى أو المحصنات لأجل الفجور بهن، أو بخطف الأولاد لأجل بيعهم أو فديتهم، فلا شك أنها تعد من المحاربين المفسدين، فما حكم الله فيهم؟
إن الآية حددت لعقاب المفسدين بقوة السلاح والعصبية أربعة أنواع من العقوبة وتركت لأولي الأمر الاجتهاد في تقديرها بقدر جرائمهم، فلا هي خيرت الإمام بأن يحكم بما شاء منها على من شاء بحسب هواه، ولا هي جعلت لكل مفسدة عقوبة معينة منها. والحكمة في عدم تعيين الآية وتفصيلها للفروع والجزئيات هي أن هذه المفاسد كثيرة وتختلف باختلاف الزمان والمكان، وضررها يختلف كذلك. والفروع تكثر فيها، حتى أن تفصيلها لا يمكن إلا في صحف كثيرة. ومن خصائص القرآن أنه كتاب هداية روحية، ليس لأحكام المعاملات الدنيوية منه إلا الحظ القليل، إذ وكل أكثرها إلى أولي الأمر من المؤمنين، وبين – بإيجازه المعجز – الضروري منها بعبارة يؤخذ من كل آية منها ما يملأ عدة صحف، كهذه الآية وآيات المواريث. والقاعدة في الإسلام أن ما لا نص فيه بخصوصه يستنبط أولو الأمر حكمه من النصوص والقواعد العامة في دفع المفاسد وحفظ المصالح والعلماء المستقلون من أولي الأمر، فلهذا بينوا ما وصل إليه اجتهادهم، ليسهلوا على الحكام من أولي الأمر فهم النصوص، ويمهدوا لهم طرق الاجتهاد. ليسهلوا على الحكام من أولي الأمر النصوص، ويمهدوا لهم طرق الاجتهاد. ولهذا اختلفت الأقوال. ولو كان مسلمو هذا العصر كمسلمي السلف لفعل أئمتهم كما يفعل عمر بن الخطاب في خلافته من جمع أولي الأمر (أهل الحل والعقد من العلماء وكبراء الصحابة) للتشاور في كل ما لا نص فيه ولا سنة متبعة. ولاستشاروهم في تقدير هذه العقوبات بقدر تأثير المفاسد وضررها. وأنفذوا ما يتقرر بعد الشورى في كل ما حدث من فروع هذه المفاسد (راجع تفسير (4: 58 {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [النساء: 58] ج5).
وعلم بهذا الذي قررناه أن كل قول قاله علماء السلف له وجه، وإن رد بعضهم قول بعض. فمن قال إن الإمام مخير فوجهه ما يدل عليه العطف بأو، لا يعني بالتخيير أن له الحكم بالهوى والشهوة، بل بالاجتهاد ومراعاة ما تدرأ به المفسدة، وتقوم المصلحة، ولا ينافي ذلك المشاورة في الأمر، كيف وهي القاعدة السياسية للحكم؟ ومن وضع كل عقوبة بإزاء عمل من أعمال المفسدين فإنما بين رأيه واجتهاده في الحكم الذي يدرأ المفسدة وتقوم به المصلحة، كما يبينون فهمهم واجتهادهم في غير ذلك من المسائل، ولا يوجبون بل لا يجيزون لأحد من حاكم أو غيره أن يتخذ فهمهم أو رأيهم دينا يتبع، وإنما هو إعانة للباحث والناظر على العلم، فإن المستقل في طلب العلم إذا نظر في مسألة لم يعرف لغيره رأيا فيها، يكون مجال نظره أضيق من مجال من عرف أقوال الناس وآراءهم، وكم من عالم مجتهد قال في مسألة قولا ثم رجع عنه بعد وقوفه على قول غيره من العلماء، إما إلى رأيهم وإما إلى رأي جديد؟ وعلى هذه القاعدة كان للشافعي مذهب قديم ومذهب جديد. فلا يغرنك قول بعض العلماء المستقلين إن أكثر ما قالوه ليس له أصل من كتاب ولا سنة.
إذا عملت هذا فهاك أشهر أقوال الفقهاء في المسألة: قال صاحب (المقنع) من كتب الحنابلة في باب قطاع الطريق: وإذا قدر عليهم فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتما وصلب حتى يشتهر، وقال أبو بكر (من فقهائهم) يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب. وعن أحمد أنه يقطع مع ذلك. وإن قتل من يكافئه فهل يقتل؟ على روايتين الخ ما ذكره وهو مثل الذي عزوناه إلى ابن عباس مع تفصيل وذكر روايات مختلفة في المذاهب. وقال محشيه ما نصه:
" قوله وإذا قدر عليهم الخ هذا هو المذهب وروي نحوه عن ابن عباس. وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي. وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي، لأن (أو) تقتضي التخيير. وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو الزناد وأبو ثور وداود. وقال مالك إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه، ولم يعتبر فعله "اه. أي أن مالكا يعتبر حال قاطع الطريق في العقاب لا عمله وحده. والجلد القوي صاحب الثبات، فإذا اجتمعت القوة مع الرأي والتدبير كان الفساد أقوى والعاقبة شرا. وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أقوالا كثيرة للعلماء في ذلك منها أقوال أئمة الزيدية فليراجعها من شاء.
قال تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ذك الذي ذكر من العقاب خزي لأولئك المحاربين المفسدين أي ذل وفضيحة – لهم – في الدنيا، ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين. وقال (لهم خزي) ولم يقل (خزي لهم) ليفيد أنه خاص بهم دون الأفراد الذين يعملون مثل عملهم من غير أن يكونوا محاربين ومعتزين بالقوة والعصبية. ثم إن عذابهم في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير إفسادهم في تدنيس أرواحهم وتدسية أنفسهم، ويا له من تأثير!
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{ذَلِكَ} النكال {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} أي: فضيحة وعار {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب، موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة، وأن فاعله محارب لله ولرسوله. وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة، علم أن تطهير الأرض من المفسدين، وتأمين السبل والطرق، عن القتل، وأخذ الأموال، وإخافة الناس، من أعظم الحسنات وأجل الطاعات، وأنه إصلاح في الأرض، كما أن ضده إفساد في الأرض.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص: إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات، أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين. ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت. فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي: وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. وأما إذا أخاف السبيل فقط، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه.. ومعنى التخيير عند مالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام. فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه، لأن القطع لا يدفع ضرره. وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف. وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير. ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه، وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل. لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام؛ ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار. وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام. كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض.. هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته؟ أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه. أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت؟ ونحن نختار النفي من أرض الجريمة، إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف؛ جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم. حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته، أو بعزله عن عصابته! (ذلك لهم خزي في الدنيا.. ولهم في الآخرة عذاب عظيم).. فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة، ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى. وهذا كذلك تغليظ للعقوبة، وتبشيع للجريمة.. ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة. وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة. فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره.. وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل. ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل. نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ. ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه:"قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْلٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض، فقال لهم: هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها" فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا. فبعث رسول الله في آثارهم، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم، فأمر بهم، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا. وقيل: أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا. قال جماعة: وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة. نقل ذلك مَوْلى ابنِ الطلاع في كتاب « الأقضيَة المَأثورة» بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين، وعلى هذا يكون نزولها نسخاً للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع. وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة. قال أبو قِلابة: فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله. وفي رواية للطبري: نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض. رواه عن ابن عبّاس والضحّاك. والصّحيح الأوّل. وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية.
فالحصر ب {إنّما} في قوله {إنّما جزاء الّذين يحَاربُون} الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة. وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه. وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلاً. وأيَّامّاً كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة. والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازماً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يبين الله سبحانه وتعالى عقب اعتداء أحد ابني آدم على أخيه، أنه سبحانه وتعالى بسبب ما استكن في النفوس من نوازع الشر والخير، وأن بعض النفوس يغلب الشر عليها فتغلب عليها الشقوة وأنها لا بد لها من زاجر يزجرها، ورادع يردعها فتقرر القصاص الذي تكون فيه حياة الجماعة والأمن من شرور أهل الفساد الذين غلب عليهم الشر، وبين سبحانه أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، وأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وأن صور الفساد الذي يبيح الدم صونا للجماعة، وحفظا للحياة الهادئة المطمئنة كثيرة، ولكن أبلغها في الفساد وأبعدها في الشر مدى هو الانتقاض على الجماعة بارتكاب جرائم القتل والعدوان، من غير تأويل والسرقة، والاتفاق الجنائي على ذلك ولذلك ابتدأ بهذا سبحانه فقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} هذا النص الكريم يبين جريمة كبيرة هي جماع لعدة جرائم، وهي جريمة الذين يحاربون النظام القائم ويخرجون جماعات ذات قوة وشكيمة ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسرقة، لا في خفية بل في إعلان، معتصمين بقوة مانعة لهم، وقد اتفقوا جميعا على ارتكاب القتل والسرقة وتهديد الآمنين. وجريمة هؤلاء أقوى من جريمة القتل المجرد، لأن جريمة القتل المجرد ليست في ذاتها تهديدا للأمن، وإن كان إهمال عقوبتها يؤدي إلى تهديد الأمن، أما هذه فإنها تهديد مباشر للأمن، فالأولى اعتداء ابتداء على الأفراد، أما هذه فهي اعتداء ابتداء على الجماعة لأنها تترصد السابلة في الطريق، فتقطع عليهم السبيل. وقبل أن نخوض في بيان هذه الجرائم وكلام الفقهاء وأهل الخبرة في معناها ونذكر عقوبتها في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، نتكلم في معاني الألفاظ، ونتكلم على ثلاث عبارات: أولها: في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين} فقد كان التعبير ب "إنما"، وهي من أوائل أدوات القصر والتخصيص وذكر هذه الكلمات في مقام بيان العقاب الذي سارع بيانه سبحانه هو لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه، وأنه لا يحل محل ذلك العقاب غيره من دية أو مال، ولا يدخله عفو، لأنه حد من حدود الله تعالى، بل هو أعظم الحدود، لأنه جريمته أشد الجرائم خطرا، إذ هي مقوضة لبنيان الجماعة، وهادمة للأمن وكان معنى التخصيص واضحا إذ هي عقوبة ليس لها بديل من سواها أي لا جزاء للجريمة ولا كفاء لها إلا ذلك العقاب. العبارة الثانية: هي قوله تعالى: {يحاربون الله ورسوله} ومعناها: يحاربون شرع الله ورسوله بالانتقاض على أحكامه ومقاومة الحكام الذين يقومون على حفظ الأمن ويقاومون الجرائم ويكون المؤدى أن الله سبحانه وتعالى ليعتبر كل من يهدد أمن الجماعة، ويعتدي عليها بالقتل والسرقة والنهب ويمنع السابلة محاربا لله ولرسوله، لأنه يشيع الجرائم، ويناصب أحكام الشرع ومن يقومون على تنفيذه وأنهم يقومون بكل الجرائم مجتمعين متفقين فيكون لهم صولة تعطيهم وصف المحاربين، وكان التعبير بمحاربة الله ورسوله من نوع المجاز، لأن الذي يقوم بالسلب والنهب وقتل السابلة يؤدي عمله إلى نقض النظام والاطمئنان، فهو إن لم يقصد بفعله المحاربة هو يؤدي إليها، أو يقال إن ذات الفعل محاربة، فلا يكون مجازا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حارب مسلما على ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله". والعبارة الثالثة {ويسعون في الأرض فسادا}. السعي: هو الحركة السريعة المستمرة، وقوله تعالى: {فسادا} هو من قبيل التميز، أي أن سعيهم لأجل الفساد لا لأجل الخير وفي ذلك الكلام إبهام بعده بيان، فيكون فيه تأكيد في البيان، فذكر السعي مبهما ثم بين بأنه من نوع الفساد لا من نوع الخير، وإن أولئك الذين يحاربون النظام وعقوبتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته: {أن يقتلوا أو يصلبوا}. إلى آخر الآية الكريمة هم الذين يعبر عنهم في الفقه بقطاع الطرق، ويسمى فعلهم قطع الطريق ويسمى الحرابة، ويعنون له بذلك في الفقه الإسلامي والعقوبة المذكورة في النص الكريم خاصة بهم. وقد التبس على بعض من لا دراية له بأحكام العقوبات في الفقه الإسلامي هؤلاء بالبغاة والتبس على بعض آخر أمر هؤلاء بأمر الخوارج، والواقع أن الذين ينقضون النظام أقسام ثلاثة متمايزة متغايرة، فالبغاة: هم الخارجون ذوو القوة والمنعة الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، أي بوجه مسوغ لهم الخروج، كأولئك البغاة الذين خرجوا على الإمام علي كرم الله وجهه، والذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمار بن ياسر رضي الله عنه: "تقتلك الفئة الباغية "وهذه تقاتل حتى تسلم[...] وهؤلاء البغاة لا يستبيحون من الأموال والدماء إلا معسكر السلطان، إذ هم لا يحاربون غيره ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. والخوارج: هم الذين خرجوا على الإمام العادل بتأويل ولكنهم، لا يستبيحون معسكر السلطان فقط، بل يعتبرون مخالفيهم في الرأي كافرين بل يعتبرونهم مشركين، وهؤلاء يعاملون معاملة البغاة، يقاتلون حتى يفيئوا فإذا كانت الفيئة فالإصلاح والقسط، ورد القضب إلى أجفانها. وقطاع الطريق، أو أهل الحرابة: وهؤلاء مجرمون يخرجون لارتكاب جرائم السلب والنهب والقتل، وسائر الموبقات بلا تأويل يتأولونه، ولا تفسير يفسرون بل يرتكبون ما يرتكبون إثما وعدوانا مقصودا ولا يقصدون إلا العدوان، كالعصابات الإجرامية التي نراها معتصمة في بعض الجبال أو الكهوف وكالعصابات التي تزعج الآمنين بقوة إرهابية. فهي إذن أقسام متمايزة متغايرة، وما لأحد من بعد أن يخلط، فيجعل حكم واحدة لأخرى، ولا وصف واحدة لأخرى. إن النص الكريم ينطبق كل الانطباق على الذين يخرجون بقوة، ويقطعون على السابلة الطريق وتكون لديهم القدرة على المنع، ولا يكون للمعتدى عليه من يحميه من خطرهم ما داموا قد تعرضوا في طريقه، فهم حينئذ يعدون قطاع طريق، ويعد عملهم حرابة ولكن اختلف الفقهاء من بعد ذلك في أمور أربعة من حيث انطباق النص القرآني... هذه الأمور الأربعة، هي: الأول المكان الذي يعدون باتخاذه مقاما لهم قطاع طريق، والثاني في طريقة إجرامهم، والثالث في عددهم وقوتهم، والرابع في الجرائم التي اتفقوا على ارتكابها أو اعتزموا ارتكابها أهي القتل والسلب فقط أم تشمل كل المعاصي كالزنا وشرب الخمر وتناول ما يشبهها وغير ذلك. أولا: المكان الذي يتخذه قطاع الطريق فإنه يجب أن يكون في داخل الدولة الإسلامية لأنهم من رعاياها، ولأن قطع الطريق على جماعة المسلمين من غير المسلمين هو الحرب الحقيقية وليس هو الحرابة التي تتلاقى معها في الاشتقاق، وتختلف عنها في حقيقتها فإن الحرب قد اختصت بمدافعة الأعداء من خارجها، أما هذه فقد اختصت بمحاربة الفساد في داخلها، والحرابة بهذا المعنى: الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة ولو بالقتل على وجه يمنع المرور ويقطع الطريق سواء أكان القطع بسلاح أم بغيره مثل العصا والحجر والخشب ونحوها، لأن قطع الطريق يكون بكل ذلك. واختلف الفقهاء في المكان الذي يتحقق به هذا أيمكن أن يكون في داخل المدينة أو القرية أم لا يتصور إلا في خارج الأمصار كالصحاري والجبال، والبراري من المزارع الشاسعة لقد قال أبو حنيفة: إن قطع الطريق لا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى. ومالك والظاهرية لا يشترطون لقطع الطريق مكانا معينا، فحيث تتحقق إخافة المارة فهي حرابة لا فرق بين أن يكون ذلك في الفيافي والقفار، أو في القرى والأمصار، فحيث لا يأمن السابلة الطريق، ولا يجدون من يسعفهم بدفع الشر عنهم فإن الحرابة تتحقق. وهناك رأي ثالث، وهو أن الأمصار والقرى تصلح مكانا لقطاع الطريق ليلا، ولا يصلح نهارا إلا الصحاري والحق الذي نراه متفقا مع مرمى النص الكريم وغايته أنه حيث تحقق الوصف وهو محاربة الله ورسوله بمحاربة الآمنين وحيث كانت القوة وحيث كان سلطان الشر، فإن الحرابة تتحقق وأننا نراها عيانا بيانا في مدن أمريكا وأوربا فالعصابات المخربة التي تحارب الأمن هنالك، وتغير على الآمنين تتخذ أوكارها في وسط الأمصار، وإن خفيت عن الأنظار. وننتقل بعد ذلك إلى الأمر الثاني: وهو عددهم ونوعهم، وإنا نقول: إن الذي عليه كثرة الفقهاء أن العبرة في الأمر هو في قوة الإخافة لا في مقدار عدد المنفذين، ولا في نوعهم أهم ذكور أم إناث، فلو أن واحدا استقر في كهف، ومعه سلاح مدمر وكل من يمر من الضعفاء، أو من لا حول لهم ولا سلاح استلب ماله أو نفسه فإنه يعد قاطع طريق، ولو أن جمعا فيهم ذكور وإناث تعاونوا على الإثم والعدوان وقطعوا الطريق على الآمنين وقاموا بالاستلاب غير مراعين حرمة مال ولا عصمة دم، فإنهم قطاع طريق محاربون. ثالثا: طريقة الإجرام أتكون بالمجاهرة والعصيان أم تكون ولو بالاختفاء، قال جمهور الفقهاء: إنه لا بد من المجاهرة بالعصيان، والظهور علنا حتى يتحقق معنى الحرابة وحتى يتحقق معنى التسليم وقال مالك: إنه تصح المحاربة بالاختفاء كالاتفاق على القتل غيلة، والاستيلاء على الأموال بالهجوم على مكامنها خفية كالعصابات التي نسمع عنها ويراها شبابنا على شاشة الخيالة (السينما)، والإذاعة المرئية (التليفزيون)، وقد حرر القرطبي في تفسيره رأي الإمام مالك، فقال: "والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها ومعناها موجود فيها، ولو خرج بعصا في المصر يقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك، لا بأيسره، فإنه سلب غيلة، وقتل الغيلة أقبح من قتل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في فعل المجاهرة، ولم يدخل في قتل الغيلة". وإن الذي نميل إليه هو مذهب مالك بلا ريب، لأن معنى المحاربة وهو إزعاج الآمنين ثابت في الاختفاء بل هو أمكن كما هو ثابت في المجاهرة بل أشد وأحكم. رابعا: بالنسبة لجرائم المحاربة أهي مقصورة على الاعتداء على الأموال والأنفس؟ قال جمهور الفقهاء ذلك، وقال مالك رضي الله عنه، كل اتفاق على ارتكاب المعاصي يعد من قبيل الحرابة، فالاتفاق على الزنا أو فتح بيوت له يعد من الحرابة، ويستحق عقابها، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقبل أن نترك الكلام في الجريمة لابد من الإشارة إلى أمرين: أولهما: أنه لا بد في اعتبار هذا الفعل جريمة أن يكون القائمون به مكلفين تكليفا شرعيا بأن يكونوا بالغين عقلاء، لأن الفعل لا يوصف بأنه جريمة أو معصية إلا إذا كان الفاعل مكلفا تكليفا شرعيا فإذا قام بالعمل صغار لا يعدون قطاع الطريق، وإذا كانوا مميزين، فإنهم يؤدبون أو يعزرون على أن يكون تعزيزهم تأديبا، ولا يكون عقابا على ما هو مقرر في باب التعزير، وإذا كانوا مجانين، فإنهم يحجزون في المصاح أو نحوهما، ولا يعزرون لأن عقابهم يكون تعذيبا، إذ لا تبعة يتحملونها، ولا يصلحون للتأديب لفقد عقولهم. ثانيهما: أيعدون محاربين، ولو لم يرتكبوا جريمة من جرائم قطع الطريق، فلم يسرقوا ولم يقتلوا ولكن اتخذوا مكانا قصيا لكي يرتكبوا الجرائم متفقين على الفعل وقصدوا الفعل ولم يفعلوا إما لأنهم لما يبدأوا، وإما لأن الأحوال لم تواتهم. وبذلك يكون مجرد الاتفاق والأهبة للتنفيذ يعد جريمة في ذاته؟ الظاهر من أقوال الفقهاء ذلك، وسيتبين وبذلك يكون الاتفاق الجنائي في الشريعة له مكانه من العقاب. والآن نتصدى لبيان العقاب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، فقد قال سبحانه: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} هذه عقوبات أربع قد ذكرت كلها معطوفة بأو التي تفيد التخيير في الجملة، ولنتكلم في كل واحد منها بتفسير معناه اللغوي: التقتيل هو القتل، ولكنه ذكر بصيغة التضعيف، وهي تدل على الشدة في القتل، وذلك بعدم التجاوز عن الذين ارتكبوا ما يوجبه، وتفيد التكرار، أي أنه يقتل من يرتكبونها، مهما يكن عددهم، فمن استحق القتل قتل ولو كانوا مائة قد قتلوا واحدا، ولأن التضعيف يفيد الاستمرار في التقتيل ما داموا قد استمروا في الجريمة، فكلما كان منهم قتلوا، ولإثبات أنه لا يقتل المقتول فقط، بل يقتل هو ومن يعاونه ومن اتفق معه على جريمة من غير تفرقة بين مباشر ومحرض وراض قد اتفق معهم على جريمة الخروج، و"التصليب" الصلب على مكان مرتفع يرى بعد القتل، وصيغة التضعيف تفيد التشديد في العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها، ولا مناص منها، وتكرارها واستمرارها ويصلب الشخص ثلاثة أيام عبرة وردعا، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه أن لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد، بل تكونان من جانبين مختلفين، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، فمعنى من خلاف أي من جانب خلاف الجانب الآخر ومعنى قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض}.
قال بعض الفقهاء: المراد نفيهم من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى، ليتفرقوا ولا يجتمعوا على ذلك الشر الذي ارتكبوه أو هموا بارتكابه، وفسر الإمام أبو حنيفة النفي بالحبس، لأن فيه إبعادا وتفريقا وهو أمنع لتجمعهم، وأوغل في تفرقهم. ذلك هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فهو العذاب العظيم ولذلك قال تعالى: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. أي أن ذلك العقاب الرادع الزاجر فيه كسر شوكتهم، وإذلالهم وقهرهم، وهو بذلك خزي لهم، إذ إنه كشف جريمتهم وأذلهم وأخزاهم وجعلهم عبرة لغيرهم، وأي خزي أشد من أن يروا مقطوعين من خلاف أو يراهم الناس مصلوبين أو يحبسوا أو يبعدوا في أقاصي الأرض فهو خزي نالهم، وفيه عبرة لغيرهم. هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فهو عذاب عظيم شديد عظيم في شدته جزاء ما اقترفوا وإن ذلك العقاب ثابت لهم ما استمروا على غيهم فإن تابوا فهي تجب ما قبلها، ولذا قال سبحانه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
قد تُثار هنا فكرة قسوة هذا التشريع بما لا يتناسب مع صفة الرحمة الّتي يتحدث عنها الإسلام كصفة لازمة لٍتشريعاته، وقد سبقت الإشارة في سياق تفسير آيات القصاص إلى ضرورة دراسة «الرحمة» ضمن نطاق تحديد المصلحة الواقعيّة لحياة الإنسان العامة والخاصة، لا نطاق العاطفة المتمثلة في الشفقة كإحساسٍ ذاتيٍ عاطفي، الأمر الَّذي يجعلنا ندخل في عمليّة توازن ومقارنة بين حجم الجريمة الّتي يقوم بها هؤلاء المحاربون لله ولرسوله المفسدون في الأرض، وتأثيرها على سلامة المجتمع الَّذي يتعرض للخطر من قِبَل هؤلاء، وبين حجم العقاب الَّذي يُراد منه أن يكون عنصر ردع للآخرين، لئلا يتكرر ظهور مثل هذه النماذج البشريّة المجرمة المنحرفة الّتي تُسيء إلى النّاس عندما تُسيء إلى حدود الله الّتي تنظّم السلامة العامة للمجتمع. ومن هنا، كان التشريع الإسلامي في تناوله للمشكلة من جذورها يعيش ويتحرك في الواقع الإنساني، بحيث لا يحل جانباً من المشكلة دون آخر، بل يضع حدّاً للمعاناة الدّائمة الّتي تنتج عن مثل هذه المشكلات من خلال استئصالها، فيعيش المجتمع بذلك في راحة ووئام. {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} تحقيراً وإبعاداً لهم عن ساحة الحياة الكريمة، فيرتدع بذلك كل من يفكر في هذا الاتجاه، ويرى لنفسه الكرامة والمنزلة الرفيعة. {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنَّهم تمردوا على الله وحاربوه في دينه وفي بلاده وعباده. ولكنَّ الإسلام لا يغلق الباب على هؤلاء، بل يفتح لهم باب الرحمة بشكلٍ واسع من دون أن يؤدي ذلك إلى الاجتراء على سلوك هذا السبيل المنحرف. فقد فرَّق بين نموذجين من هؤلاء: النموذج الَّذي لا يفكر بالتوبة إلاَّ بعد إلقاء القبض عليه ومواجهته للعقوبة، والنموذج الَّذي يتوب وهو يملك حريّة الحركة في الهرب، والتخلص من العقوبة. فإن الجزاء القاسي في الدنيا والآخرة ينتظر النموذج الأول، لأنَّ استمراره في الالتزام بخط الجريمة والانحراف إلى اللحظة الّتي يلقى القبض فيها عليه، يدل على تأصّل الانحراف في شخصيته، ويوحي بإمكانيّة الامتداد في ممارستها في المستقبل...