والآن يجيء شطر السورة الثاني في آية واحدة طويلة ، نزلت بعد مطلع السورة بعام على أرجح الأقوال :
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ، وطائفة من الذين معك . والله يقدر الليل والنهار . علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ، فاقرأوا ما تيسر من القرآن . علم أن سيكون منكم مرضى . وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله . فاقرأوا ما تيسر منه ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ، واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم . .
إنها لمسة التخفيف الندية ، تمسح على التعب والنصب والمشقة . ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين . وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له . وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير . وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام . إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة . هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه .
وفي الحديث مودة وتطمين : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) . . إنه رآك ! إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله . . إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع ؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة ، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله . . إن ربك يعطف عليك ويريد أن يخفف عنك وعن أصحابك . . ( والله يقدر الليل والنهار ) . . فيطيل من هذا ويقصر من ذاك . فيطول الليل ويقصر . وأنت ومن معك ماضون تقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه . وهو يعلم ضعفكم عن الموالاة . وهو لا يريد أن يعنتكم ولا أن يشق عليكم . إنما يريد لكم الزاد وقد تزودتم فخففوا عن أنفسكم ، وخذوا الأمر هينا : فاقرؤوا ما تيسر من القرآن . . في قيام الليل بلا مشقة ولا عنت . . وهناك - في علم الله - أمور تنتظركم تستنفذ الجهد والطاقة ، ويشق معها القيام الطويل : ( علم أن سيكون منكم مرضى ) " يصعب عليهم هذا القيام " ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) . . في طلب الرزق والكد فيه ، وهو ضرورة من ضرورات الحياة . والله لا يريد أن تدعوا أمور حياتكم وتنقطعوا لعبادة الشعائر انقطاع الرهبان ! ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) . . فقد علم الله أن سيأذن لكم في الإنتصار من ظلمكم بالقتال ، ولإقامة راية للإسلام في الأرض يخشاها البغاة ! فخففوا إذن على أنفسكم ( فاقرأوا ما تيسر منه )بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد . . واستقيموا على فرائض الدين : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . وتصدقوا بعد ذلك قرضا لله يبقى لكم خيره . . ( وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ) . . واتجهوا إلى الله مستغفرين عن تقصيركم . فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب : ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) . .
إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام ! ولقد خفف الله عن المسلمين ، فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقد مضى على نهجه مع ربه ، لا يقل قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربه ، في خلوة من الليل وهدأة ، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد . على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه . فقد كان قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] دائما مشغولا بذكر الله ، متبتلا لمولاه . وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه . على ثقل ما يحمل على عاتقه ، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال . .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 20 ) }
إن ربك –يا محمد- يعلم أنك تقوم للتهجد من الليل أقل من ثلثيه حينًا ، وتقوم نصفه حينًا ، وتقوم ثلثه حينًا آخر ، ويقوم معك طائفة من أصحابك . والله وحده هو الذي يقدِّر الليل والنهار ، ويعلم مقاديرهما ، وما يمضي ويبقى منهما ، علم الله أنه لا يمكنكم قيام الليل كله ، فخفَّف عليكم ، فاقرؤوا في الصلاة بالليل ما تيسر لكم قراءته من القرآن ، علم الله أنه سيوجد فيكم مَن يُعجزه المرض عن قيام الليل ، ويوجد قوم آخرون يتنقَّلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون من رزق الله الحلال ، وقوم آخرون يجاهدون في سبيل الله ؛ لإعلاء كلمته ونشر دينه ، فاقرؤوا في صلاتكم ما تيسَّر لكم من القرآن ، وواظبوا على فرائض الصلاة ، وأعطوا الزكاة الواجبة عليكم ، وتصدَّقوا في وجوه البر والإحسان مِن أموالكم ؛ ابتغاء وجه الله ، وما تفعلوا مِن وجوه البر والخير وعمل الطاعات ، تلقَوا أجره وثوابه عند الله يوم القيامة خيرًا مما قدَّمتم في الدنيا ، وأعظم منه ثوابًا ، واطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم ، إن الله غفور لكم رحيم بكم .
قوله : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } يعني : إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل ، وتقوم نصفه ، وتقوم ثلثه . وقرأ آخرون ( ونصفه وثلثه ) بالجر ، عطفا على ثلثي الليل . فيكون المعنى : إن الله يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه .
قوله : { وطائفة من الذين معك } طائفة معطوف على ضمير ، تقوم يعني : وتقوم هذا القدر من الليل معك طائفة من أصحابك .
قوله : { والله يقدّر الليل والنهار } أي يقدرهما بالساعات والأوقات وهما تارة يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا ، وهذا من هذا .
قوله : { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } يعني علم الله الذي فرض عليكم قيام الليل أنكم لن تطيقوا قيامه فتاب عليكم ، إذ عجزتم وضعفتم عن قيامه ، وخفف عنكم { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل . فقد عبّر عن الصلاة بالقراءة ، لأنها بعض أركانها فعبّر عنها بالقيام والركوع والسجود .
وقد استدل الإمام أبو حنيفة ( رحمه الله ) بهذه الآية { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } على أن قراءة الفاتحة غير متعينة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية واحدة أجزأه ذلك وتمّت صلاته صحيحة . ويعزز ذلك ما جاء في الصحيحين " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وأجيب عن ذلك بحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج . فهي خداج غير تمام " .
وعلى هذا فثمة قولان في المراد بالقراءة . أحدهما : أن المراد بها الصلاة فهي تسمى قرآنا كقوله : { و { قرآن الفجر } أي صلاة الفجر . والمعنى : فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل . وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس .
ثانيهما : أن المراد نفس القراءة . أي فاقرأوا فيما تصلون بالليل ما خفّ عليكم من القرآن . وهذا تخفيف من الله عن عباده ما فرضه عليهم بقوله : { قم الليل إلا قليلا 2 نصفه أو انقض منه قليلا } وقد قيل : يقرأ مائة آية . وقيل : يقرأ خمسين .
قوله : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يبين الله في ذلك علة تخفيف قيام الليل إلى قراءة ما تيسر من القرآن . وهي أنه سيكون في الناس أولو أعذار في ترك قيام الليل ، منهم المرضى الذين لا يطيقون القيام . ومنهم المسافرون في الأرض طلبا للكسب والارتزاق والمعايش ومنهم المجاهدون في سبيل الله . وهذه السورة مكية ، والقتال قد شرع بعد ذلك في المدينة ، فلا جرم أن هذا دليل ساطع ومشهور يشهد بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك من باب الإخبار عن المغيبات .
قوله : { فاقرأوا ما تيسر منه } الهاء في قوله : { منه } عائدة إلى القرآن . فقد افترض الله القيام في أول هذه السورة فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، ثم أنزل التخفيف بعد ذلك فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة . وإذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض ، كان قوله : { فاقرأوا ما تيسر منه } محمولا على ظاهره من القراءة في الصلاة . وقد اختلف العلماء في قدر ما يلزم من القراءة به في الصلاة . فقال الإمامان مالك والشافعي : إن فاتحة الكتاب واجبة على التعيين دون غيرها من السور أو الآيات ولا يجزي العدول عنها إلى غيرها من القراءة . وقدّر الإمام أبو حنيفة القراءة في الصلاة بآية واحدة سواء كانت من فاتحة الكتاب أو من غيرها من السور . والراجح القول الأول وهو وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة لما بيناه في حينه من أدلة على وجوبها وأن غيرها من الآيات والسور لا يجزئ عنها .
قوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } المراد بالصلاة هنا ، المفروضة ، وهي الصلوات الخمس في اليوم والليلة { وآتوا الزكاة } يعني أدوا الزكاة المفروضة في أموالكم .
قوله : { وأقرضوا الله قرضا حسنا } يعني وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم وقيل : المراد بالقرض النوافل من الصدقات سوى الزكاة .
قوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } ما تقدمونه في دار الدنيا من وجوه البر والخير كالنفقات والصدقات أو غير ذلك من وجوه الطاعة كالصلاة والصيام وغيرهما من أعمال الخير والصالحات ، تبتغون بذلك وجه الله فإنكم ستجدون جزاء ذلك كله عند الله يوم القيامة { وهو خيرا وأعظم أجرا } هو ، ضمير فصل لا محل له من الإعراب . خيرا ، مفعول ثان للفعل { تجدوه } والهاء هي المفعول الأول{[4677]} .
قوله : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } أي سلوا الله أن يغفر لكم ذنوبكم ويعفو عنكم فهو سبحانه غفّار لذنوب عباده التائبين المستغفرين وهو ذو رحمة بهم فلا يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها{[4678]} .