ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات ؛ وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم :
( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . .
فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا ، وأعمارها وأحداثها ، ومتاعها ، وأشياؤها ، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم . . عشية أو ضحاها !
وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون . والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة . والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان . والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها . . تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها .
هذه هي : قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة . . أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة ? ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى !
ألا إنها الحماقة الكبرى . الحماقة التي لا يرتكبها إنسان . يسمع ويرى !
وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها } اما تقرير وتأكيد لما ينبئ عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لاسيما على الوجه الثاني والمعنى كأنه يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا قليلاً وأما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية الخ وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عشيته أو ضحاها فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في «الكشف » من حيث أنك إذا قلت لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر أما إذا قلت عشيته أو ضحاها لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه وقال الطيبي أنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازاً فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسناً كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واختار في الإرشاد ما قدمنا وقال إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقاً للإنذار ورداً لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب هذا ولا يخفي عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسناً في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على { فيم } ثم يستأنف { أنت من ذكراها } [ النازعات : 43 ] لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى : { فِيمَ } الخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة { يَسْأَلُونَكَ } الخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أنت من ذكراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت الخ والجواب عليه قوله تعالى { إلى رَبّكَ منتهاها } [ النازعات : 44 ] ولا يخفي ضعف ذلك وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها } فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ كأنك حفي عنها } [ الأعراف : 187 ] يرده إذ المراد أنك لا تحتفي بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية منذر بالتنوين والأعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار المشابهة والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الأعمال والاعمال عارض للشبه والوصف عند إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة كقولك هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة يخشى ولا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الاستمرار ومثله يجوز فيه الاعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك في كتب الأصول فلا تغفل والله تعالى أعلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت ذلك اليوم فقال: {كأنهم يوم يرونها} الساعة يظنون أنهم {لم يلبثوا} في الدنيا ونعيمها {إلا عشية} وهي ما بين صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس {أو ضحاها} يقول: أو ما بين طلوع الشمس إلى أن ترتفع الشمس، على قدر عشية الدنيا أو ضحا الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: كأن هؤلاء المكذّبين بالساعة، يوم يرون أن الساعة قد قامت، من عظيم هولها، لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية يوم، أو ضحا تلك العشية والعرب تقول: آتيك العشية أو غدَاتَها، وآتيك الغداةَ أو عشيتها، فيجعلون معنى الغداة، بمعنى أوّل النهار، والعشية: آخر النهار، فكذلك قوله: إلاّ عَشِيّةً أوْ ضُحاها إنما معناها إلا آخر يوم أو أوّله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد. فإن قلت: فهلا قيل: إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت: الدلالة على أن مدّة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه؛ فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قرب تعالى أمر الساعة بإخباره أن الإنسان عن رؤيته إياها لم يلبث إلا عشية يوم أو بكرته، فأضاف الضحى إلى العشية من حيث هما طرفان للنهار، وقد بدأ بذكر أحدهما فأضاف الآخر إليه تجوزاً وإيجازاً...
...المعنى أن ما أنكروه سيرونه حتى كأنهم أبدا فيه وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ثم مضت...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا...
بدأ بذكر أحدهما، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كأنهم} أي هؤلاء المنكرين لصحة الإنذار بها {يوم يرونها} أي يعلمون قيامها علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور من علمهم بما مر من زمانهم وما يأتي منه {لم يلبثوا} أي في الدنيا و في القبور {إلا عشية} أي من الزوال إلى غروب الشمس. ولما كانوا على غير ثقة من شيء مما يقولونه قال: {أو ضحاها} أي ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية ما بعد ذلك، أضيف إليها الضحى لأنه من النهار، ولإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار أوله أو آخره، لم يستكملوا نهاراً تاماً ولم يجمعوا بين طرفيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).. فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا، وأعمارها وأحداثها، ومتاعها، وأشياؤها، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم.. عشية أو ضحاها! وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون. والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة. والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان. والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها.. تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها. هذه هي: قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، زهيدة تافهة.. أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة؟ ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى! ألا إنها الحماقة الكبرى. الحماقة التي لا يرتكبها إنسان. يسمع ويرى!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يسئلونك على الساعة أيان مرساها} [النازعات: 42] باعتبار ظاهر حال السؤال من طلب المعرفة بوقت حلول الساعة واستبطاء وقوعها الذي يرمون به إلى تكذيب وقوعها، فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي إن طال تأخر حصولها فإنها واقعة وأنهم يوم وقوعها كأنه ما لبثوا في انتظار إلا بعض يوم. والعشية: معبر بها عن مدة يسيرة من زمان طويل على طريقة التشبيه، وهو مستفاد من {كأنَّهم}، فهو تشبيه حالهم بحالة من لم يلبث إلا عشية، وهذا التشبيه مقصود منه تقريب معنى المشبَّه من المتعارف. وقوله: {أو ضحاها} تخيير في التشبيه على نحو قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} في سورة البقرة (19). وفي هذا العطف زيادة في تقليل المدة لأن حصة الضحى أقصر من حصة العشية...
ومسوغُ الإِضافة أن الضحى أسبق من العشية إذ لا تقع عشية إلا بعد مرور ضحى، فصار ضحى ذلك اليوم يعرَّف بالإِضافة إلى عشية اليوم لأن العشية أقرب إلى علم الناس لأنهم يكونون في العشية بعد أن كانوا في الضحى، فالعشية أقرب والضحى أسبق...