وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة ، ورفعها على الأفق في إطار النور . يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة ، ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها . فريق المنافقين :
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ، ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ، بأسهم بينهم شديد ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ، ولهم عذاب أليم . كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر . فلما كفر قال : إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزاء الظالمين . .
وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير ، ثم لم يفوا به ، وخذلوهم فيه ، حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر حقيقة ، وتمس قلبا ، وتبعث انفعالا ، وتقر مقوما من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق .
وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب : ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ) . فأهل الكتاب هؤلاء كفروا . والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام !
ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم : ( لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم ) . .
والله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون ، ويؤكد غير ما يؤكدون : ( والله يشهد إنهم لكاذبون
الذين نافقوا : أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر .
ثم يأتي الحديث عن المنافقين ، وكَذِبهم وخداعهم ، وعدم وفائهم بما قالوا لإخوانهم اليهود الذين اتفقوا على بُغض الرسول الكريم والمؤمنين ، فيقول تعالى تعجّباً من كفرهم وكذبهم ونفاقهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } .
ألم تَعْجَبْ من حال هؤلاء المنافقين الذين خدعوا إخوانهم في الكفر ، اليهودَ من بني النضير ، حيث قالوا لهم اصمُدوا في دِياركم ولا تخرُجوا ، فإننا سننصركم ، وإن أُخرجْتم من المدينة لنخرجنَّ معكم ، ولا نطيعُ في شأنِكم أحدا أبدا .
{ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، إن قاتلكم المسلمون قاتلنا نحن معكم . والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به .
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين نافقوا } أي أظهروا خلاف ما أضمروا : يعني : عبد الله بن أبي سلول وأصحابه ، { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم اليهود من بني قريظة والنضير ، جعل المنافقين إخوانهم في الدين ، لأنهم كفار مثلهم . { لئن أخرجتم } من المدينة ، { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً } يسألنا خذلانكم وخلافكم ، { أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم }يعني المنافقين . { لكاذبون . } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وأنزل في دس المنافقين إلى اليهود؛ أنا معكم في النصر والخروج، فقال: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} من اليهود: {لئن أخرجتم} لئن أخرجكم محمد من المدينة {لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا} يقول: لا نطيع في خذلانكم أحدا {أبدا} يعني بأحد النبي صلى الله عليه وسلم وحده، {وإن قوتلتم لننصرنكم} يعني لنقاتلن معكم، فكذبهم الله تعالى، فقال: {والله يشهد إنهم لكاذبون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد، فترى إلى الذين نافقوا وهم فيما ذُكر عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ووديعة، ومالك ابنا نوفل وسُوَيد وداعس بَعَثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب أن اثبتُوا وتمنّعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم، خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة...
وقوله: {يَقُولُون لإخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ} يعني بني النضير...
وقوله:"لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ "يقول: لئن أخرجتم من دياركم ومنازلكم، وأُجْليتم عنها لنخرُجَنّ معكم، فنُجلى عن منازلنا وديارنا معكم.
وقوله: "وَلا نُطِيعُ فِيُكُمْ أحَدا أبَدا" يقول: ولا نطيع أحدا سألنا خذلانكم، وترك نصرتكم، ولكنا نكون معكم. " وَلَئِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنّكُمْ" يقول: وإن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لننصرنّكم معشرَ النضير عليهم.
وقوله: {واللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ} يقول: والله يشهد إن هؤلاء المنافقين الذين وعدوا بني النضير النصرة على محمد صلى الله عليه وسلم لَكَاذِبُونَ في وعدهم إياهم مَا وَعَدُوهم من ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذه الآية تدل على أن الله تعالى جعل حجة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على المنافقين في أنفسهم، لأنهم قالوا هذا القول سرا منهم إلى أهل الكتاب، لأنه لا يحتمل أن يظهروا مثل هذا القول بين يدي المؤمنين، ولا كان الكفار يخبرون بهذا أحدا من المؤمنين. فلما أخبر ما قال المنافقون ثبت أنه ما علمه إلا عن الوحي والتنزيل، وذلك علم نبوته عليهم، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ}، أي أظهروا خلاف ما أضمروا، وهو مأخوذ من (نافقاء اليربوع) وهي أخذ جحرته، إذا أُخذ عليه جحر أخذ من جحر آخر، فيقال عند ذلك: نفق ونافق، فشبه فعل المنافق بفعل اليربوع؛ لأنه يدخل من باب ويخرج من باب، فكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد. والنفاق لفظ إسلامي لم يكن يعرفه العرب قبل الإسلام.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
جعل المنافقين إخوانهم في الدين، لأنهم كفار مثلهم.
"يقولون لإخوانهم..."، وهذه الأخوة تحتمل وجوها؛
(أحدها) الإخوة في الكفر لأن اليهود والمنافقين كانوا مشتركين في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(وثانيها) الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
(وثالثها) الأخوة بسبب ما بينهما من المشاركة في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا لليهود: {لئن أخرجتم} من المدينة {لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم {أحدا أبدا} ووعدوهم النصر أيضا بقولهم: {وإن قوتلتم لننصرنكم} ثم إنه تعالى شهد على كونهم كاذبين في هذا القول فقال: {والله يشهد إنهم لكاذبون}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: لكاذبون فيما وعدوهم به؛ إما أنهم قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما أنهم لا يقع منهم الذي قالوه؛ ولهذا قال: {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل على أن هذا الثناء للصادقين في الإيمان بإقامة السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمماً للقصة مخاطباً لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صلى الله عليه وسلم، معجباً من حالهم في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات، ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق غاية البيان: {ألم تر} أي تعلم علماً هو في قوة الجزم به كالمشاهد يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: {إلى الذين نافقوا} أي أظهروا غير ما أضمروا، أظهروا الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل غيره، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، وصور حالهم بقوله: {يقولون لإخوانهم} أي في الموالاة بالضلالة. ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال: {الذين كفروا} أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق، وعينهم بما أبلغ في ذمهم من حيث إنهم ضلوا على علم فقال: {من أهل الكتاب} وهم بنو النضير هؤلاء، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم في قولهم: {لئن أخرجتم} أي من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا {لنخرجن معكم} فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألاً وكل بمنطقهم.
ولما كان من المعلوم أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين، وكان من المعلوم -أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة لهم وإحساناً إليهم، وكان تجويز بني النضير موهناً لذلك، قالوا مؤكدين للكون معهم: {ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم {أحداً} أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين، وأكدوا بقولهم: {أبداً} أي ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب.
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألاً قاضياً عليهم، أتبعوه قولهم: {وإن قوتلتم} أي من أي مقاتل كان فقاتلتم ولم تخرجوا {لننصرنكم} ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى بني النضير: "اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني، قد هممتم بالغدر بي وقد أجلتكم عشراً، فمن رئي بعد ذلك منكم ضربت عنقه " فأرسل إليهم ابن أبي بما تقدم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه، بين حاله سبحانه بقوله: {والله} أي يقولون ذلك والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يشهد} بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب. ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع، وكان إخلافهم فيه متحققاً في علم الله، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابق، فقال تشجيعاً للمؤمنين على قتالهم مؤكداً {إنهم} أي المنافقون {لكاذبون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة، ورفعها على الأفق في إطار النور. يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة، ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها. فريق المنافقين وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير، ثم لم يفوا به، وخذلوهم فيه، حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. وفي كل جملة قرآنية لفتة تقرر حقيقة، وتمس قلبا، وتبعث انفعالا، وتقر مقوما من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق؛ فأهل الكتاب هؤلاء كفروا، والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام! والله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون: (والله يشهد إنهم لكاذبون).
ولما دل على أن{[63983]} هذا الثناء{[63984]} للصادقين في الإيمان بإقامة{[63985]} السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن{[63986]} تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان ، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك ، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمماً للقصة مخاطباً لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صلى الله عليه وسلم معجباً من حالهم{[63987]} في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض{[63988]} عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي{[63989]} هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق{[63990]} غاية البيان : { ألم تر } أي تعلم علماً هو في قوة{[63991]} الجزم به{[63992]} كالمشاهد{[63993]} يا أعلى الخلق ، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء{[63994]} فقال تعالى : { إلى الذين نافقوا } أي أظهروا غير ما أضمروا ، أظهروا{[63995]} الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل{[63996]} غيره ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه ، قالوا : والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله ، وهو استعارة من {[63997]}فعل الضب{[63998]} في نافقائه وقاصعائه ، وصور حالهم بقوله : { يقولون لإخوانهم } أي في الموالاة بالضلالة{[63999]} .
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة ، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال : { الذين كفروا } أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم{[64000]} على الحق ، وعينهم بما أبلغ في ذمهم {[64001]}من حيث{[64002]} إنهم ضلوا على علم فقال : { من أهل الكتاب } وهم بنو{[64003]} النضير هؤلاء ، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم في قولهم : { لئن أخرجتم } أي{[64004]} من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا { لنخرجن معكم } فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألاً وكل بمنطقهم .
ولما كان من المعلوم{[64005]} أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين ، وكان من المعلوم - أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة{[64006]} لهم وإحساناً إليهم ، وكان تجويز بني النضير موهناً لذلك{[64007]} ، قالوا مؤكدين للكون معهم : { ولا نطيع فيكم } أي في خذلانكم ، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم { أحداً } أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين ، وأكدوا بقولهم : { أبداً } أي ما دمنا نعيش ، وبمثل{[64008]} هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب .
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألاً قاضياً عليهم ، أتبعوه قولهم : { وإن قوتلتم } أي من أي مقاتل{[64009]} كان فقاتلتم ولم تخرجوا { لننصرنكم } فالآية من الاحتباك : ذكر الإخراج أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والقتال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى بني النضير : " اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني ، قد هممتم بالغدر بن وقد أجلتكم عشراً ، فمن رئي بعد ذلك منكم ضربت عنقه " فأرسل{[64010]} إليهم ابن أبي بما تقدم .
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه ، بين حاله{[64011]} سبحانه بقوله : { والله } أي يقولون ذلك {[64012]}والحال{[64013]} أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يشهد } بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب . ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع ، وكان إخلافهم{[64014]} فيه متحققاً في علم الله ، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابق ، فقال تشجيعاً للمؤمنين على قتالهم مؤكداً { إنهم } أي المنافقون { لكاذبون * } وهذا من أعظم دلائل النبوة لأنه إخبار بمغيب بعيد عن العادة بشهادة ما ظننتم أن يخرجوا فحققه الله عن قريب{[64015]} .
{ أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 ) } .
ألم تنظر إلى المنافقين ، يقولون لإخوانهم في الكفر من يهود بني النضير : لئن أخرجكم محمد ومَن معه مِن منازلكم لنخرجن معكم ، ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا سألَنا خِذْلانكم أو ترك الخروج معكم ، ولئن قاتلوكم لنعاوننكم عليهم ؟ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به يهود بني النضير .
قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون 11 لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثم لا ينصرون 12 لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 13 لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون 14 كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم 15 كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين 16 فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين } .
يبين الله في ذلك حقيقة المنافقين الكاذبين الذين يكنون في صدورهم الغيظ والكراهية للإسلام والمسلمين فهم يحرّضون الكافرين من أهل الكتب على قتال الرسول والمسلمين ، ويعدونهم بالنصرة والتأييد ويحلفون لهم أنهم لن يتخلوا عنهم إذا حوربوا ، والله يشهد إنهم لكاذبون . أولئك هم المنافقون المذبذبون الذين يتدسّسون في الظلام ليكيدوا للإسلام والمسلمين كيدا . وهم في كل الأحوال مخذولون مفضوحون ، فما يلبثون أن يظهروا وينكشفوا فيعلمهم الناس . فقال سبحانه : { ألم تر الى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن المنافقين وفي طليعتهم عبد الله بن أبي ابن سلول - بعثوا ليهود بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم - أن اثبتوا لقتال محمد والمسلمين فإنا مؤيدوكم وناصروكم ولن نتخلى عنكم . فلئن قاتلكم المسلمون قاتلنا معكم ولئن أخرجوكم فإنا خارجون معكم . فاغترّ اليهود بهذا القول من المنافقين وانتظروا منهم أن يعينوهم ويقاتلوا معهم لكنهم لم يجدوا منهم شيئا وقد قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا هاربين . وهو قوله : { لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } يعني لا نطيع أحدا يسألنا أن نخذلكم ونتخلى عنكم ، ولكننا معكم في التأييد والمناصرة ، { وإن قوتلتم لننصرنكم } يعني إن قاتلكم محمد والمسلمون فلسوف نكون معكم لمناصرتكم وتأييدكم . { والله يشهد إنهم لكاذبون } الله جل جلاله يشهد أن هؤلاء المنافقين كاذبون فيما وعدوا به بني النضير من العون والنصر .