في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكافرون مكية وآياتها ست

لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه . أحد . صمد . فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته . كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء . أو يرمزون بها إلى الملائكة . . وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأن بينه - سبحانه - وبين الجنة نسبا ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . .

ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) . . ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) . . وفي إيمانهم كانوا يقولون : والله . وتالله . وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم . . الخ .

ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم . حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم . وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله . وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم ، ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم . وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) .

وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله . والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله . بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله - بزعمهم - فكانوا يعدون أنفسهم أهدى . لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى . . وكله شرك . وليس في الشرك خيار . ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا !

فلما جاءهم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : إن دينه هو دين إبراهيم - عليه السلام - قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد ? ! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] خطة وسطا بينهم وبينه ؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه ! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط !

ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه . . لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية !

ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق . . نزلت هذه السورة . بهذا الجزم . وبهذا التوكيد . وبهذا التكرار . لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير :

( قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين ) .

نفي بعد نفي . وجزم بعد جزم . وتوكيد بعد توكيد . بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد . .

( قل ) . . فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده . ليس لمحمد فيه شيء . إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره ، الحاكم الذي لا راد لحكمه .

قل يا أيها الكافرون . . ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم . . إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون . فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق . .

وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب ، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكافرون مكية ، وآياتها ست ، نزلت بعد سورة الماعون . رُوي أن جماعة من زعماء قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد أنت ما نعبد ، ونشركك في أمرنا كله . فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت منه بحظك . فأنزل الله تعالى { قل يا أيها الكافرون } . وكان نزولها أمرا قاطعا لأطماع الكافرين في مساواتهم إياه في دعوة الحق ، وقررت هذه السورة الكريمة البراءة من الشرك والضلال .

الخطابُ للنبيّ الكريم عليه الصلاةُ والسلام . وكان المشركون من زعماءِ قومِه عَرَضوا عليه أن يعبُدوا اللهَ سَنَةً على أن يَعبُدَ النبيُّ الكريم آلهتهم سنةً مثلَها . فنزلت هذه السورةُ جواباً لهم : { قُلْ } يا محمد لهؤلاءِ المشركين الّذين سألوك أن تعبدَ آلهتهم على أن يعبدوا إلهك { يا أيها الكافرون } بالله .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ} (1)

لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم ، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك ، فقال معلماً له ما يقول ويفعل : { قل } ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير ، قال منادياً له بأداة البعد ، وإن كان حاضراً ، معبراً بالوصف المؤذن بالرسوخ : { يا أيها الكافرون } أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر ، فلا انفكاك لهم عنه ، فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ ، وهم كفرة مخصوصون ، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل ، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة ، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً ، كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ، ومحل عزهم وحميتهم ، إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم ، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فهذا طريق أحد الفريقين ، وفي قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق ؛ إذ ليس إلا طريق السلامة ، أو طريق الهلاك :{ فريق في الجنة وفريق في السعير }[ الشورى : 7 ]

{ فمنكم كافر ومنكم مؤمن }[ التغابن : 2 ] والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم ، وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم ، ورتبتهم مختلفة ، وإن جمعهم جامع ، وهو قوله : { فريق في الجنة } وأما أهل التنكب عن هذا الطريق -وهم الهالكون- فعلى طبقات أيضاً ، ويضم جميعهم طريق واحد ، فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما ، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت ، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق ، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به ، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن{ هدى للمتقين }[ البقرة : 2 ] إلى قوله : { إن شانئك هو الأبتر } أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون } فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك ، ولا يقع منه الإيمان أبداً{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله }[ الأنعام : 111 ] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم :{ ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل }[ السجدة : 12 ] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }[ الأنعام : 128 ] تصديقاً لكلمة الله ، وإحكاماً لسابق قدره :{ أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار }[ الزمر :19 ] فقال لهم : { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } إلى آخرها ، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال ، واستمر كل على طريقه{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }[ فاطر : 8 ]

{ إن عليك إلا البلاغ }[ الشورى : 48 ] فتأمل موقع هذه السورة ، وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب ، يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة مكية . وقيل : مدنية . وآياتها ست .

بسم الله الرحمان الرحيم

قل ياأيها الكافرون 1 لا أعبد ما تعبدون 2 ولا أنتم عابدون ما أعبد 3 ولا أنا عابد ما عبدتم 4 ولا أنتم عابدون ما أعبد 5 لكم دينكم ولي دين } .

هذه السورة تدعو إلى البراءة من الشرك ، ومما يقوله المشركون أو يدعون إليه من كفر وباطل . وهي آمرة بتوحيد الله ، وإخلاص العبادة والطاعة له وحده ، دون أحد من خلقه .

وذكر في سبب نزول هذه السورة أن نفرا من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وأمية بن خلف ، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله . فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله { قل ياأيها الكافرون } . وقيل : إن المشركين الجهلة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية{[4869]} .

قوله : { قل ياأيها الكافرون } الخطاب من الله لرسوله في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا . أي إن المخاطبين هنا كفرة مخصوصون ، علم الله منهم الكفر ، وأنهم لا يؤمنون .


[4869]:تفسير القرطبي جـ 30 ص 225 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 560 وأسباب النزول للنيسابوري ص 307.