إنها جولة في مصارع الغابرين ، بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين :
( إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله ) . .
الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين .
( قالوا : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون ) . .
وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية ، ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم ، لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !
{ من بين أيديهم ومن خلفهم } : أي أتتهم رسلهم تعرض عليهم دعوة الحق من أمامهم ومن ورائهم .
{ لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } : أي بدلاً عنكم أيها الرسل من البشر .
وقوله : { إذ جاءتهم الرسل } وهم هود وصالح من بين أيديهم ومن خلفهم كناية أن الرسول بلغهم دعوة الله لهم إلى الإِيمان والتوحيد بعناية فائقة يأتيهم من أمامهم ومن خلفهم يدعوهم ، قائلاً لهم : لا تعبدوا إلا الله فإنه الإِله الحق وما عداه فباطل فكان جوابهم لهم لا نؤمن لكم ولا نقبل منكم لو شاء الله ما تقولون لنا لأنزل به ملائكة يدعوننا إليه لا أن يرسل مثلكم من البشر وأخيراً قالوا لهم فإننا بما أرسلتم به كافرون فأيأسوا الرسل من إجابتهم . هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى ( 12 ) والثانية ( 13 ) وفي الآية الثالثة ( 14 ) بين تعالى حال القوم كلا على حدة فقال فأما عاد أي قوم هود فاستكبروا في الأرض بغير الحق فحملهم الكبر الناجم عن القوة المادية على رفض دعوة هود عليه السلام وقالوا فيه وفي دعوته الكثير وقد مر في سورة هود ويأتي في سورة الأحقاف مفصلا ما أجمل هنا ، وقوله بغير الحق أي أن استكبارهم لاحق لهم فيه أولا لضعفهم أمام قوة الله عز وجل ، وثانيا لم يأذن الله تعالى لهم بالاستكبار فهو بغير حق إذاً .
- تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله .
- دعوة الرسل واحدة وهي الأمر بالكفر بالطاغوت ، والإِيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات .
حيث { جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي : يتبع بعضهم بعضا متوالين ، ودعوتهم جميعا واحدة . { أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي : يأمرونهم بالإخلاص للّه ، وينهونهم عن الشرك ، فردوا رسالتهم وكذبوهم ، { قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً } أي : وأما أنتم فبشر مثلنا { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين ، من الأمم{[772]} وهي من أوهى الشُّبَهِ ، فإنه ليس من شرط الإرسال ، أن يكون المرسل مَلَكًا ، وإنما شرط الرسالة ، أن يأتي الرسول بما يدل على صدقه ، فَلْيَقْدَحُوا ، إن استطاعوا بصدقهم ، بقادح عقلي أو شرعي ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .
وعلل إيقاع ذلك بهم بقوله : { إذا } ويجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي حين { جاءتهم الرسل } لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه ، ولما كانت الرسل إنما أتت بالفعل في بعض الزمان أدخل الجار فقال : { من بين أيديهم } أي من قبلهم لأن النذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به { ومن خلفهم } وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم ، فالخلف كناية عن الخفاء ، والقدام عن الجلاء ، ولا شك أن الإنسان لما انقاد له من قبله فسمعه منه أقبل مما رآه بعينه ، لأن النفس لا تنقاد لما خالفها إلا بعد جدال وجهاد ، فإذا تطاول الزمن وانقاد له الغير ، سهل عليها الأمر ، وخف عليها الخطب ، وأيضاً الآتي إلى ناس إنما يأتيهم بعد وجودهم وبلوغهم حد التكليف ، فهو بهذا آتٍ إليهم من ورائهم أي بعد وجودهم أو يكون ما بين الأيدي هو من جاءهم لأنهم علموا بمجيئه علم من ينظر من قدامه ، وما خلفهم ما غاب عنهم ممن تقدمهم ، فلم تنقل إليهم أخبارهم إلا على وجوه تحتمل الطعن ، أو المعنى : أتاهم رسولهم الذي هو بإظهار المعجزة كجميع الرسل بالوعظ من كل جانب يخفى عليهم أو يتضح لهم وأعمل فيهم كل حيلة بكل حجة حتى لم يدع لهم شبهة ، ثم بين أن مجيء الرسل ينفي عبادة غير الله وقصر العبادة عليه ، فقال مظهراً مع العبادة الاسم الذي هو أولى بها : { أن } أي بأن قولوا لهم { لا تعبدوا إلا الله } أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان هذا موضعاً لتشوف السامع إلى خبرهم عند ذلك إجابة بقولهم : { قالوا } أي كل منهم : { لو شاء ربنا } أي الذي ربانا أحسن تربية وجعلنا من خواصه بما حبانا به من النعم أن يرسل إلينا رسولا { ملائكة } فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم ينزل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً ، فتسبب عما قالوه من القياس الاستثنائي الذي استنتجوا فيه من نقيض تاليه نقيض مقدمه ، لما جعلوا بين المقدم والتالي من الملازمة بزعمهم قولهم : { فإنا بما } أي بسبب الذي ولما كانوا لم ينكروا مطلق رسالتهم ، إنما أنكروا كونها من الله ، بنوا للمجهول قولهم مغلباً تعالى في الترجمة عنهم للخطاب على الغيبة لأنه أدخل في بيان قلة أدبهم : { أرسلتم } أي أيها الرسل ومن كان على مثل حالهم من البشر { به } أي على ما تزعمون خاصة لا بغير ما أرسلتم به مما أنزل به ملائكة مثلاً { كافرون * } لأن قياسنا قد دل على أنه تعالى لم يشأ الإرسال ، فأنتم لستم بمرسل عنه لأنكم بشر لا ملائكة وقد كذبوا في قياسهم الذي لم يأخذوه عن عقل ولا نقل لأنه لا ملازمة بين مشيئة الإرسال إلى الناس كافة أو إلى أمة منهم وبين أن يكون المرسل إليهم كلهم ملائكة .