ثم تجيء الجولة الثالثة والأخيرة . وكأنها التكملة المباشرة للجولة الأولى . إذ تتحدث عن نساء كافرات في بيوت أنبياء . ونساء مؤمنات في وسط كفار :
( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين ، فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل ادخلا النار مع الداخلين . . وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون ، إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ، ونجني من فرعون وعمله ، ونجني من القوم الظالمين . ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ، وصدقت بكلمات ربها وكتبه . وكانت من القانتين ) . .
والمأثور في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط ، أنها كانت خيانة في الدعوة ، وليست خيانة الفاحشة . امرأة نوح كانت تسخر منه مع الساخرين من قومه ؛ وامرأة لوط كانت تدل القوم على ضيوفه وهي تعلم شأنهم مع ضيوفه !
والمأثور كذلك عن امرأة فرعون أنها كانت مؤمنة في قصره - ولعلها كانت أسيوية من بقايا المؤمنين بدين سماوي قبل موسى . وقد ورد في التاريخ أن أم " أمنحوتب الرابع " الذي وحد الآلهة في مصر ورمز للإله الواحد بقرص الشمس ، وسمى نفسه " إخناتون " . . كانت أسيوية على دين غير دين المصريين . . والله أعلم إن كانت هي المقصودة في هذه السورة أم أنها امرأة فرعون موسى . . وهو غير " أمنحوتب " هذا . .
ولا يعنينا هنا التحقيق التاريخي لشخص امرأة فرعون . فالإشارة القرآنية تعني حقيقة دائمة مستقلة عن الأشخاص . والأشخاص مجرد أمثلة لهذه الحقيقة . .
إن مبدأ التبعة الفردية يراد إبرازه هنا ، بعد الأمر بوقاية النفس والأهل من النار . كما يراد أن يقال لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأزواج المؤمنين كذلك : إن عليهن أنفسهن بعد كل شيء . فهن مسؤولات عن ذواتهن ، ولن يعفيهن من التبعة أنهن زوجات نبي أو صالح من المسلمين !
وها هي ذي امرأة نوح . وكذلك امرأة لوط . ( كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين ) . . ( فخانتاهما ) . . ( فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ) . . ( وقيل : ادخلا النار مع الداخلين ) . .
فلا كرامة ولا شفاعة في أمر الكفر والإيمان . وأمر الخيانة في العقيدة حتى لأزواج الأنبياء !
ضربُ المثل : ذِكر حالٍ غريبة للعِظة والاعتبار .
تحت عبدَين : يعني زوجتين لنبيَّين كريمين هما : نوح ولوط .
يبينُ الله تعالى في هذه الآية الكريمة أمثلةً واضحة من أحوال النساء تظهر فيها حقائقُ مهمّة ، فمن النساء صنفٌ لا يردعُهنّ عن كفرِهنّ حتى وجودُهن في بيوت الأنبياء ، كامرأة نوحٍ التي كانت تقول عن زوجها إنه مجنون ، وخانتْه بالتآمر عليه وعدم تصديقه برسالته . وكذلك امرأة لوط ، كانت كافرةً وخانت زوجها بالتآمر عليه مع قومه حين دلّت قومه على ضيوفه لمآرب خبيثة . فوجودهما في بيت النبوّة مع كفرهما ، لم يغيّر منهما شيئاً وذهبتا إلى النار .
ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين . وكان اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والهة ، قاله مقاتل . وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها : إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة . " فخانتاهما " قال عكرمة والضحاك : بالكفر . وقال سليمان بن رقية{[15166]} عن ابن عباس : كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون . وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه . وعنه : ما بغت امرأه نبي قط . وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري . إنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين . وقيل : كانتا منافقتين . وقيل : خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين ، قاله الضحاك . وقيل : كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف ؛ لما كانوا عليه من إتيان الرجال . " فلم يغنيا عنهما من الله شيئا " أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما - لما عصتا - شيئا من عذاب الله ، تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة . ويقال : إن كفار مكة استهزؤوا وقالوا : إن محمدا صلي الله عليه وسلم يشفع لنا ، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء ، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته وشفاعة لوط لامرأته ، مع قربهما لهما لكفرهما . وقيل لهما : " وقيل ادخلا النار مع الداخلين " في الآخرة ، كما يقال لكفار مكة وغيرهم . ثم قيل : يجوز أن تكون " امرأة نوح " بدلا من قوله : " مثلا " على تقدير حذف المضاف ، أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح . ويجوز أن يكونا مفعولين .
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( 10 ) }
ضرب الله مثلا لحال الكفرة - في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم ، وأن ذلك لا ينفعهم لكفرهم بالله- بحال زوجة نبي الله نوح ، وزوجة نبي الله لوط : حيث كانتا في عصمة عبدَين من عبادنا صالحين ، فوقعت منهما الخيانة لهما في الدين ، فقد كانتا كافرتين ، فلم يدفع هذان الرسولان عن زوجتيهما من عذاب الله شيئًا ، وقيل للزوجتين : ادخلا النار مع الداخلين فيها . وفي ضرب هذا المثل دليل على أن القرب من الأنبياء ، والصالحين ، لا يفيد شيئا مع العمل السيِّئ .
قوله : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين } هذان مثلان يضربهما الله للناس ، للاستفادة والموعظة وليعلموا أن العقيدة أساس العلائق والروابط بين العباد . فمن كان جاحدا ، مكذبا ، لا يغنيه أهلوه وذووه وصحبه من عذاب الله شيئا . وهو لا محالة في الأخسرين . ومن كان مؤمنا موقنا موصول القلب بالله لا تضره مكائد المجرمين والمتربصين ولا تزعزعه النوائب والفتن من حوله مهما عتت واشتدت . فقد مثّل الله المثل { للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } كانتا زوجين لنبيين كريمين صالحين ، فخانت كل واحدة منهما زوجها . فزوجة نوح كانت كافرة ، وكانت تقول للمشركين إن نوحا مجنون فتغريهم به وتحرّضهم عليه . أما امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه ، فما يأتيه من أحد إلا وتشير إلى المشركين لتنبئهم بذلك .
وليس المقصود بخيانتهما اقتراف الزنا . فما كان لامرأة نبي أن تزني البتة . ولكن خيانتهما كفرهما وتمالؤهما مع الكافرين على زوجيهما النبيين الصالحين { فلم يغنيا عنهما من الله شيئا } أي لم يغن نوح ولوط . عن امرأتيهما الخائنتين من عذاب الله شيئا . فالنبيان الكريمان لا يملكان دفع العذاب عن المرء إلا بالطاعة وإخلاص العبادة لله .
ثم قيل للزوجين الظالمتين { ادخلا النار مع الداخلين } وهذه عاقبة الذين يخونون النبيين بمعاداتهم والكيد لهم والتمالؤ عليهم مع الكافرين . إن عاقبتهم النار يصلونها مقهورين مذمومين{[4578]} .