( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) . .
وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم . . لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر ، ويملي بعضهم لبعض في الضلال . فاليوم يتلاومون . واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر . واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون ، من حيث كانوا أخلاء يتناجون ! ( إلا المتقين ) . . فهؤلاء مودتهم باقية فقد كان اجتماعهم على الهدى ، وتناصحهم على الخير ، وعاقبتهم إلى النجاة . .
قوله تعالى : { الأخلاء } على المعصية في الدنيا ، { يومئذ } يوم القيامة ، { بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } إلا المتحابين في الله عز وجل على طاعة الله عز وجل .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد ، أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جرير ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن قتادة ، حدثنا أبو ثور عن معمر عن قتادة عن أبي إسحاق أن علياً قال في هذه الآية : خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين فقال : يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ، ويخبرني أني ملاقيك ، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني ، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما ، فيقول : ليثن أحدكما على صاحبه ، فيقول : نعم الأخ ، ونعم الخليل ، ونعم الصاحب ، قال : ويموت أحد الكافرين ، فيقول : يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ، ويخبرني أني غير ملاقيك ، فيقول بئس الأخ ، وبئس الخليل ، وبئس الصاحب .
قوله تعالى : " الأخلاء يومئذ " يريد يوم القيامة . " بعضهم لبعض عدو " أي أعداء ، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا . " إلا المتقين " فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة . قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط ، كانا خليلين ، وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : قد صبأ عقبة بن أبي معيط ، فقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه ، ففعل عقبة ذلك ، فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صَبْرًا{[13671]} ، وقتل أمية في المعركة ، وفيهم نزلت هذه الآية . وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية قال : كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين فقال : يا رب ، إن فلانا كان يأمرني بطاعتك ، وطاعة رسولك ، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر . ويخبرني أني ملاقيك ، يا رب فلا تضله بعدي ، وأهده كما هديتني ، وأكرمه كما أكرمتني . فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما ، فيقول الله تعالى : ليثن كل واحد منكما على صاحبه ، فيقول : يا رب ، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ، ويخبرني أني ملاقيك ، فيقول الله تعالى : نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان . قال : ويموت أحد الكافرين فيقول : يا رب ، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ، ويخبرني أني غير ملاقيك ، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي ، وأن تضله كما أضللتني ، وأن تهينه كما أهنتني ، فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما : ليثن كل واحد منكما على صاحبه ، فيقول : يا رب ، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك ، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب ، فيقول الله تعالى : بئس الصاحب والأخ والخليل كنت . فيلعن كل واحد منهما صاحبه .
ولما كانت الساعة تطلق على الحبس بالموت وعلى النشر بالحياة ، بين ما يكون في الثاني الذي هم له منكرون من أحوال المبعوثين على طريق الاسئتناف في جواب من يقول : هل يقومون على ما هم عليه الآن ؟ فقال : { الأخلاء } أي في الدار { يومئذ } أي إذ تكون الساعة وهي ساعة البعث التي هي بعض مدلول الساعة { بعضهم لبعض عدو } ولما ينكشف لهم من أن تأخيرهم في الحياة هو السبب في عذابهم ، فيقول التابع للمتبوع : أنت غررتني فضررتني ، ويقول المتبوع : بل أنت كبرتني فصغرتني ، ورفعتني فوضعتني ، ونحو هذا من الكلام المؤلم أشد الإيلام { إلا المتقين } الذين تقدم أمرهم بالتقوى وحثهم عليها .
قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } ذكر أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، فقد كانا خليلين وهما من رؤوس الطغاة والمجرمين . وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش : قد صبأ عقبة بن أبي معيط ، فقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه ، ففعل عقبة ذلك ، فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا{[4150]} وقتل أمية في المعركة . والصحيح أن الآية عامة في سائر الأخلاء الظالمين المتحابين في الدنيا ، فإنهم يوم تأتيهم الساعة ينقلب بعضهم لبعض عدوا . أي يعادي بعضهم بعضا .
وهو قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } الأخلاء جمع خل وخليل وهو الصديق من المخالة ، والخلة بالضم والفتح وهي الصداقة{[4151]} فهم يوم القيامة متنافرون ، إذ يكره بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا بعد أن كانوا في الدنيا متحابين تجمع بينهم علائق شتى من أمور الدنيا ومصالحها وغير ذلك من قضايا الشر والظلم والباطل والإيذاء ، فضلا عما كان يجمع بينهم من شديد المكائد والمؤامرات للإسلام والمسلمين ، فإن اشتداد الكراهية والأحقاد المحتقنة في قلوب الظالمين على اختلاف مللهم وعقائدهم ومذاهبهم تدفعهم للتلاقي بينهم ليكونوا أخلاء متحدين من أجل التصدي للإسلام والمسلمين ، والكيد لهم . أولئك المتحابون في الدنيا ، المجتمعون على العدوان والكيد للإسلام والمسلمين لإضعافهم وإذلالهم وإبادتهم ، إنما ينقلبون يوم القيامة متباعضين متلاعبين بعد أن انقطعت بينهم أسباب المودة والتلاقي ، واشتغل كل واحد منهم بنفسه ، ووجدوا ما كان يجعلهم أخلاء ، أسبابا لهلاكهم وخسرانهم فصار بعضهم لبعض عدوا { إلا المتقين } فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة ، لأن ما كان يجمعهم في الدنيا من أسباب الخير وعلائق الدين والعقيدة لم ينقطع يوم القيامة . بل بقيت خلّتهم على حالها من ثبات التوثيق ومتانة الرباط .