الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ} (67)

ثم وَصَفَ سُبْحَانَه بَعْضَ حالِ القيامة ، فقال : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } ، وذلك لهولِ مطلعها والخوف المُطِيفِ بالناس فيها ؛ يتعادى ويتباغضُ كُلُّ خليل كان في الدنيا على غير تُقًى ؛ لأَنَّه يرى أَنَّ الضَّرَرَ دخل عليه من قِبَلِ خليله ، وأَمَّا المُتَّقُونَ فَيَرَوْنَ أَنَّ النفْعَ دخَلَ من بعضهم على بعض ، هذا معنى كلام عليٍّ رضي اللَّه عنه وخَرَّجَ البَزَّارُ عن ابن عَبَّاس قال : " قيل : يا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ ؟ قَالَ : مَنْ ذَكَّرَكُمْ باللَّهِ رُؤْيَتُهُ ، وَزَادَكُمْ في عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ ، وَذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ عَمَلُهُ " اه ، فمِنْ مِثْلِ هؤلاء تصلُحُ الأُخُوَّةُ الحقيقية ، واللَّه المستعانُ ، ومن كلام الشيخ أبي مَدْيَنَ رضي اللَّه عنه : " دليلُ تخليطِكَ صُحْبَتُكَ للمخلِّطين ، ودليلُ انقطاعك صُحْبَتُكَ لِلمُنْقَطِعِين " ، وقال ابن عطاء اللَّه في «التنوير » : قَلَّ ما تَصْفُو لَكَ الطَّاعَات ، أو تَسْلَمُ من المخالَفَات ، مع الدخول في الأسباب ، لاِستلزامها لمعاشرة الأضداد ؛ ومخالطة أَهْلِ الغَفْلة والبِعَاد ، وأَكْثَرُ ما يعينك على الطاعات رؤيةُ المُطِيعين ، وأَكْثَرُ ما يُدْخِلُكَ في الذَّنْبِ رؤيةُ المُذْنِبين ، كما قال عليه السلام : " المَرْءُ على دِينِ خَلِيلِهِ ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ " والنفس من شأنها التَّشَبُّهُ والمحاكَاةُ بصفَاتِ مَنْ قارَنَهَا ، فصحبةُ الغافلين مُعِينَةٌ لها على وجود الغَفْلَةِ ، انتهى . وفي «الحِكَمِ الفارقيَّة » : مَنْ ناسب شَيْئاً انجذب إليه ؛ وظَهَرَ وَصْفُهُ عليه ، وفي «سماع العُتْبِيَّةِ » قال مالك : لا تصحبْ فاجراً ؛ لئلاَّ تتعلمَ من فجوره ، قال ابن رُشْدٍ : لا ينبغي أنْ يصحب إلاَّ مَنْ يُقْتَدَى به في دينه وخيره ؛ لأَنَّ قرينَ السوء يُرْدِي ؛ قال الحكيم :

ذَا كُنْتَ في قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُم *** وَلاَ تَصْحبِ الأردى فتردى مَعَ الرَّدِي

عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِه *** فَكُلُّ قَرِينٍ بالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

انتهى .

( ت ) : وحديث : " المَرْءُ على دِينِ خَلِيلهِ " أخرجه أبو داود ، وأبو بكر بن الخطيب وغيرهما ، وفي «المُوَطَّإ » من حديث معاذ بن جبل ، قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : قال اللَّه تبارك وتعالى : " وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَالمُتَجَالِسِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ والمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ " قال أبو عمر : إسناده صحيحٌ عن أبي إدريس الخولانيِّ عن معاذ ، وقد رواه جماعة عن معاذٍ ، ثم أسند أبو عمر من طريق أبي مسلم الخولاني ، عن معاذ قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : " المُتَحَابُّونَ في اللَّه على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ في ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ " ، قال أبو مسلم : فخرجت فلقيتُ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ ، فذكرتُ له حديث مُعَاذٍ ، فقال : وَأَنا سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ : قَالَ : " حَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى المُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وحَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى المُتَزَاوِرِينَ فيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتي عَلَى المُتَبَاذِلِينَ فيَّ ، والمُتَحَابُّونَ في اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ في ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ " انتهى من «التمهيد » .